يقولون أنه لا يوجد طرق مختصرة في الحياة لتحقيق رغبة معينة، أو كتيبات مصغرة تضمن ذلك لقرائها، أو حتي كتالوجات تشغيل للقوي البشرية بأسسٍ صحيحة تضمن لهم نتائج مرجوة تلبي كافة الطموحات، فالنجاح في ذلك مثل الكوكب بعيد المدي، لا بد أن يصعد إليه الفرد بصاروخ العزيمة، وتزويد مركبته بوقود الرغبة في الأمور، حتي يصير الهدف واقعاً ملموساً نتيجة ذلك التشبث بتحقيق المبتغي بكل ما أوتي أحد من إرادة.
لكن ماذا إن إنقلبت الأية وصار العسير سهلاً، النجاح يقدم لك علي طبقٍ من فضة لن تحتاج إلي تصبب العرف في السعي إليه، القوة بين يديك ستشعرك أنك ملكت مفاتيح العالم بأسره كي تسيطر عليه أو علي أجزاءٍ منه، لحظاتٍ تلو لحظات ستقول كلمتك ويعلو شأنك فيرهب منك الجميع ويصير بأسك مدفعاً ينطلق إلي صدورأعدائك بلا هوادة، ذلك الحل قد يبدو صغيراً مادياً وغير معقد تفصيلياً، ولكنه كبيرٌ في المنفعة و إستثنائيٌ فعال علي مستوي النتيجة.
المؤلف “ماتسون توملين” في “Project Power” الذي يعد أولي تجاربه الروائية الطويلة يعكس المنطق الذي نعرفه جميعاً ،ويبدل الثوابت والأسس اليقينية بحكايةٍ خيالية إستطاع أن يُعيش من خلالها الجمهور لما يقارب الساعتين تجربة عصيبة ولكنها ممتعة في الوقت ذاته، تشهدُ عديد التحولات التي تطرأ علي أي شخص يسلك طريقاً ما لا يعرف خباياه، يبدو في ظاهره النفع ولكن في باطنه دفعةً إلي أمورٍ قد لا يحمد عقباها فيما بعد.
“توملين” الذي سيخوض مهمة كتابة فيلم “The Batman” الجديد بصحبة المخرج “مات رييفز” يبدو عليه تأثرٍ شديد وولعٌ جم بالقصص المصورة وعوالمها الخيالية، مهارةٌ فائقة أظهرها “توملين” في بؤرةٍ بعيدة عن حكاوي “دي سي” و”مارفل” التي لا يمكن منافستها علي الإطلاق، وأضاف عليه بصمته المستمدة من فلسفة واقعية معكوسة ٍفكرتها بما يمكن سرده سينمائياً، فكانت النتيجة هي بداية مبشرة ل”توملين” في مسيرته السينمائية وطمأنة مباشرة للجمهور أن سيناريو الرجل الوطواط في أياديٍ أمينة وواعدة إن صح التعبير والقول.
تدور أحداث الفيلم عن كبسولةٍ صغيرة تعطي متعاطيها قوة خارقة لفترةٍ لا تزيد عن خمس دقائق من الوقت، تتبع القصة إحدي مروجي تلك الكبسولات وتدعي “روبن” التي تجد نفسها مضطرة للتعاون مع “آرت” الملقب ب”الرائد” والساعي إلي معرفة من وراء ذلك الإنتشار الواسع لهذا المخدر، في الوقت الذي يتدخل فيه أيضاً النقيب “فرانك” من شرطة “نيوأورلينز” معتمداً علي قوة الكبسول من أجل حماية مدينته والتصدي لمن يتربصون بالمقيمين بها ومن يتاجر بسلاح القوة هذا ،والذي لا ينذر بأي شئ سوي الخطر بعكس الهدف المنشود منه.
يُدخل “ماتسون توملين” المشاهد في صلب القصة منذ البداية من حيث تقديم الشخصيات تاركاً المجال لمعلوماتٍ إضافية عنهم مع توالي الأحداث، وساهم أيضاَ بتفاصيل الحبكة الخالية من أي عنصرٍ غير مفيد في تسارع إيقاع الفيلم وإبتعاده عن ما قد يسبب الملل ولو لوهلة، يؤجج “توملين” الصراع بين طرفي القصة بإمتياز عن طريق خلق تسلسلاتٍ عديدة تمهد للتجربة الحركية التي هي في الأصل ما يبحث عنه الجميع في هذه الفترة العصيبة من الوقت، ولكنه أيضاً نجح في لفت الإنتباه خصيصاً في الجانب السردي بتحريه المنطق في تشكيل معالم القصة، فكان بذلك سبباًً رئيسياً في قبول الفيلم بجانب العمل البصري الذي سيتم التحدث عنه لاحقاً.
حتي علي مستوي تصميم الشخصيات، يبتعد “توملين” علي الشكل التقليدي المتبع في أفلام الأبطال الخارقين من حيث كونهم أصحاب القوة والعمل الدؤوب في محاربة الشر، ويقرر رواية القصة من منظور فتاة صغيرة مثل “روبن” يخوض معها المُشاهد تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر أينما ذهبت بصحبة “آرت” و”فرانك”، ذلك ليس معناه أن المساندين لا يتحلون بذلك القدرمن الأهمية مثل “روبن”، ف”آرت” ترتكز القصة عليه في جزئية المفاجآت خصيصاً والتي تشغل حيزاً هاماً في الفيلم، و”فرانك” يعتبر جزءاً هاماً في كونه ضلع من أضلاع القوة التي تسعي لمحاربة ذلك الخطر المتفشي في المدينة حتي ولو كانت بطريقة غير قانونية ولكنها الغرض منها شريف ونبيل ، لهذا يُحسب ل”توملين” تناغم الشخصيات مع أحداث القصة برمتها والأهمية التي يحظي بها كل واحدٍ منهم كمحرك أساسي للأحداث وسفير للمشاهد في قلب تلك المعركة بين الخير وقوي الشر العنيفة.
ما يعيب الفيلم غيابٌ حقيقي للشخصية الشريرة التي بإمكانها زرع الخطورة قياساً بحجم ما تواجهه “روبن” ورفاقها، للمرة الثانية علي التوالي بعد “The Old Guard” تتكرر تلك المشكلة بتواجد شخصية كل ما بداخلها عديد الأفكار عن التطور البشري وتعزيز قوي الناس وامكانياتهم برغم كونها مضللة وتؤدي بالناس إلي هلاكه ،و يتم التغلب عليها بسهولة ودون عناء عند الوصول الي المنعطف الأخير من القصة، بالرغم من وضوح تلك المعضلة ضمن السياق، إلا أنها لا يمكن أن تتسبب في شعورٍ بالقلق حيال فيلم “The Batman”، فمع “مات رييفز” كل شئٍ في أمان، و”توملين” نفسه أظهر مقدرته علي قيادة الفكرة إلي الظهور بشكلٍ لائق ومرضي لجميع الأذواق.
الإخراج البصري بدا فريد من نوعه، ومناسب للرؤية المنوطة بالقوي التي يتصف بها كل من يبتلع ذلك العقار، حتي علي مستوي المونتاج هناك اعتمادٍ نسبي من قبل مخرجي الفيلم “هنري جوست” و”أريل شولمان” علي القطع الحركي “Cutting On Action” الذي يعتمد في الأساس على قص اللقطات قبل نهايتها،ثم الانتقال بعدها إلى لقطة لاحقة يتم التعامل معها بنفس النهج السابق، ثم العودة في بعض الأحيان إلى عرض ما تبقي من اللقطة السابقة، ساهم ذلك بشكل سلس في المعرفة الوثيقة بتأثير الكبسولات علي متعاطيها ومواطن القوة التي تمنحها، و كذلك خلق أجواء من الحماس والتوتر الإيجابي وقت عرض مشاهد الحركة بعيدًا كل عن إزعاج المشاهد بصريًا وبطريقة مبالغٍ فيها.
قبيل الحديث عن الأداء التمثيلي، يقول “ماتسون توملين” في تصريح صحفي مثير للدهشة أنه كان يكتب الشخصيات وفي مخيلته “جيمي فوكس” و”جوزيف جوردن ليفيت”، وقد صدق حدس “توملين” بعد مشاهدته لهما منتحلين دوري “آرت” و”فرانك” علي التوالي، “جيمي فوكس” الحائز علي جائزة الأوسكار عن فيلم “Ray” يثبت عن جدارة أنه يمتلك ما يلزم للعب مثل هذه الأدوار وأنه يعيش حالة من الإنتعاش الفني عقب أدائه الرفيع في “Just Mercy” العام الماضي، صرامة وحميةٍ كبري أثناء المواجهة وتركيزٍ كبير علي مايرغب بتحقيقه وتناغم بينه وبين الأخرين تنم عن أريحية تامة أثناء التجسيد وتدبرٍ متقن للشخصية وأبعادها المتعددة، لا عجب أن دور “أرت” هو من أفضل الأدائات التي قدمها في الونة الأخيرة بعد صيامٍ عن الإختيارات التمثيلية الجيدة منذ “Django Unchained”.
يقابله علي الجانب الأخر “جوزيف جوردن ليفيت” العائد مؤخراً بعد غياب ثلاث سنوات إلي المعترك السينمائي بدورٍ هام وبشخصية تمتاز بالولاء لوطنها وإنحيازه الشديد إلي الخير والميل لتطبيقه علي أرض الواقع مهما كانت الطريقة، لم يبدو علي “ليفيت” هنا تأثره بالغياب علي الإطلاق ونجح في أن يكون عاملاً أساسياً فيما يخص السياق الممهد لشخصيته من تعاملٍ حازم مع القوة المضادة ومجابهة للشر بشجاعة متعاوناً مع الأخرين، مجهود كبير يشكر عليه “ليفيت” وهو بالفعل الإختيار المثالي للمشاركة بالفيلم.
ولكن من لفتت الأنظار بقوة ونجحت في خطف الأضواء من الثنائي المذكور سلفاً هي الصغيرة “دومينيك فيشباك” بملامحها البريئة وكرهها لتلك الأوضاع التي وجدت نفسها بداخلها، وقد نجحت “فيشباك” في عكس الطبيعة الحسية لشخصية “روبن” وإتقان موهبة غناء “الراب” ببراعة فائقة والأهم من ذلك التحول بشكلٍ طردي مع التغير الذي يطرأ علي الشخصية عند الوصول للنصف الأخير من القصة، هي ليست مخيلة عادية تلك التي يتمتع بها ماتسون توملين، بل هو ذكاء في المقام الأول من حيث تصميم الشخصيات بدراية تامة عن من هم الممثلين المناسبين لأدائها وبطريقةٍ متقنة تصل للمشاهدين بكل سهولةٍ ويسر.
في الختام، لا شك أن “نيتفليكس” بدأت في التحسن بشكل كبير في قدرتها علي إستقطاب العمل السينمائي الجيد وإدراجه بكل طمأنينة ضمن قوائم عروضها علي مدار شهور السنة الإثني عشر، “نيتفليكس” بالفعل أنقذت العام بعض الشئ بأعمالها الدرامية الجيدة والأفلام المتاحة علي منصتها التي لا تقل قيمةٍ هي الأخري عن المسلسلات المحببة عند الكثيرين الذي يعتيرهم الشغف بمشاهدتها دوناً عن خيرها، ها هي تطلق العنان لعملٍ جديدٍ مميز يرتدي صناعه قفاز الإجادة بدئاً من مؤلفه ووصولاً لنجومه الثلاثة أصحاب الفضل كذلك في ظهور الفيلم بشكلٍ لائق سيعجب الكثيرين وسيقضون من خلاله أمتع اللحظات وهم في منازلهم.