الحقيقة , هذا الكائن الذي يمشي بيننا, غير أن “مأساتها” تكمن في انها “كائن” غير واع أخرس تتخبط في داخلنا منذ أن وجدنا, أحيانا نفقد الاتصال بها , نبتعد عنها , ثم نعود لها تائهين تائبين؛ و هكذا اكتشف تريفور حقيقته! في فيلم مليء بالإثارة و الحقائق المفزعة.
فيلم The Machinist, هو فيلم غموض وإثارة صدر في سنة 2004، من إخراج “براد أندرسون” ومن بطولة ” كريستيان بيل ” في دور تريفور ريزنيك، ويشاركه بطولة الفيلم أيضاً جينيفر جيسون ليز
*تنبية يحتوي المقال على حرق لبعض الاحداث*
قصة فيلم The Machinist
تريفور, العامل الذي يعاني من صعوبات في النوم وأرق مستمر، يجعله يقترب من عام كامل لم ينم فيه سوى ساعات قليلة جدا! ليبدأ بعدها في رؤية هلاوس مختلفة، كظهور عامل ذو وجه مشوه في المصنع لا يراه أحد سواه، ووجود ملاحظات مكتوبة على ثلاجة منزله لا يدري من قام بكتابتها مما جعله يعاني من نحافة تكاد تجعلة خفياً عن الأعين.
عندما يتحول اللاوعي إلى شخوص وصور ,تتحرك حولك في واقعك فهذا هو الجحيم. هذا هو شكل واقع (تريفور ) شخص يعاني من أرق مزمن تتجسد كل الكوابيس أمامه و يعايشها يوميا. تصور أن شيطان الكوابيس في الميثولوجي الاغريقية و هو إنكيبوس Incubus , أو الجاثوم الذي يقبع فوق صدرك و أنت نائم فيجعلك تستيقظ من نومك فزعاً وبحالة شلل أو عجز مؤقت في جسدك. يُعايشك على طول اليوم بواقع أربع وعشرين ساعة , يختزل حياتك إلى الوان في قمة البؤس والكابة الاخضر الباهت او الرصاصي و الأسود, روائح زيوت تشحيم الماكينات , تحاول الاستيقاظ و لكن كيف تستيقظ من كابوس اذا لم تكن نائما!!
كان ( تريفور) كائن مميكن بكل ما تعنية الميكانكية من صرامة ودقة ومعيارية مع بعض الثقوب او خرق للنظام اليومي , معرفتة ب (ستيفي) وكذلك مكانة المفضل في كافتريا المطار والنادلة اللطيفة ( ماري ) والتي تقوم بدورها الممثلة الايطالية (Aitana Sánchez-Gijón) والتي يفضل على يدها القهوة والكيك .. وبعدها يرجع الى نفس الميكانكية القاسية الخالية من الحياة , إلى ان يتعرف على شخص يدعى (ايفان) ,غريب الاطوار وبسبب غرابة اطواره يشرد ذهن تريفور أثناء عمله ويتسبب في قطع ذارع زميل له.
قائمة افضل افلام كريستيان بيل – ساحر التحولات الجسدية
فيحصل على انذار بالطرد لو تكرر الحادث مع انه اصر على وجود شخص اسمة إيفان هو من جعلة شارد الذهن بعد ان رسم علامة الذبح على رقبتة وينفي رئيسه بالعمل وجود شخص بهذا الاسم, و لا يوجد حتى على كشوف رواتب العمال.
يتكاثف حضور ايفان في حياة تريفور إلى ان يجد الخلاص و يظهر مع كل محاولة من قبل تريفور للنوم ولو لثواني فقط , الخلاص الذي يتأتى من فهم اشارات العقل الباطن هوكان خلاص تريفور .
و من الجدير بالذكر أن كريستفور بيل , فقد ثلاثين كيلو غرام من وزنة من اجل تأدية الدور هذا وكان يخطط لفقدان خمسين جرام ولكن قدر المخرج ان بيلي سوف يعاني من مشاكل صحية كبيرة لو نزل إلى وزن الخمسين كيلو جرام, فقد كان المحور الأكبر في الفيلم وأدى الدور بشكل خرافي , مع ان الفيلم لم يحقق اي نجاح تجاري في شباك السينما للاسف الشديد .
المخرج صاغ مجموعة مشاهد رائعة في هذا الفيلم , مشاهد مبعثرة وتحوي قطع من الاحجية وبشكل ذكي جداً, والاستبدال في الشخوص كان رائعاً , حيل تحبس الانفاس و فيلم لا يكشف عن الاحجية إلا في اخر ثانية وهنا عبقرية الاخراج.
سوف يمسنا طيف كتابات و شخوص ديستويفسكي في لحظات ونحن نتابع شخصية تريفور وهي تئن تحت وطأة تعذيب الضمير , فشخصية تريفور تبعث فينا خليط مذهل من راسكولنيكوف ومن الأخوين ديمتري وإيفان كرامازوف و الأمير ميشكين. بما في ذلك الطريقة التي يتم بها طرح الأسئلة القلقة و المثيرة لدى المشاهد , و لعل أبرزها في البداية لماذا تريفور ضعيف و هزيل ؟لماذا هو مصاب الهذيان؟ لماذا هو هيكل عظمي أكثر منه إنسان عادي؟ثم من هو إيفان الذي يظهر فجأة ويعمل معه في نفس المصنع والذي يرى أنه يسعى إلى تدميره والقضاء عليه ؟ وماهو سر تلك القصاصات الورقية على ثلاجته؟ وتلك الرسوم الغريبة؟ التي سنكتشف لاحقاً بأنها ليست سوى عمل تريفور الذهني و جزء من لاوعيه و ذكرياته.
يقدم لنا الفيلم فرصة للتعرف على إحدى حالات البارانويا وتشخيصها وصياغة التغيرات النفسية لمريضها . فنجد تريفور وعدم احتفاظه بعلاقات حميمية “إذا استثنينا علاقته بستيفي”, والميل الواضح لديه للاكتئاب و معاناته من فقدان الشهية الشديد و عدم النوم يدفع بتريفور نحو حافة الجنون , و يعرض لنا المخرج أخيرا في الخلفية البصرية لهذا السرد الحادثة التي وقعت لتريفور منذ عام حين كان يقود سيارته مسرعا اثناء عودته من رحلة صيد , و في لحظة بحثه عن ولاعة السجائر انحرفت السيارة مما أدى بها للاصطدام بطفل ليختار تريفور أن يهرب , ومنذ تلك اللحظة تولد عنده إحساس متعاظم من الشعور بالذنب فيزداد اكتئابه بشكل مطرد
حتى أنه يتحول إلى حالة ذهانية من هلوسات بصرية و سمعية شديدة الالتصاق به تصل إلى ما يشبه الجنون النفسي.
فنحن هنا أمام إحدى أكثر الشخصيات المركبة و أصعبها تعقيدا؛
ومن ناحية أخرى لايستجدي المخرج غرائزنا ليثير فينا مشاعر الاستحسان للفيلم , بل يشدنا للفيلم حتى آخر لحظة لمعرفة مصير تريفور من خلال خلفية مظلمة كئيبة تتناسب مع توجه الفيلم الأساسي بحديثه عن مفهوم الجريمة و الخلاص.
وكم ستكون الحياة قاتمة لو كان الماضي يحاصرنا ليس في أحلامنا فحسب بل في كل لحظة واقعية نعيشها ,وتداخل أحلامنا و امتزاجها بين ما هو حقيقي وبين ما هو محض وهم أو خيال ,ففي كل مرة يحاول فيها تريفور أن يغفو يظهر إيفان بحضوره الباهت ,وهذا يعني بلغة الواقع أنه في تلك اللحظة يكون نائم و أن إيفان هو جزء من حلمه الذي يبدأ بالتشكل فور أن يغفو ,لنتذكر أيضا أن ميللر الذي بترت ذراعه يقول أن تريفور كان نائما في اللحظة التي طلب منه المساعدة , ولكننا نعلم أيضا أن تريفور في تلك اللحظة كان يراقب إيفان .
عموماً تريفور شخص حزين مشوش غير قادر على التمييز بين الحلم و الواقع لكثرة انهماكه في هواجسه التي سببها الأساس كما يبدو لنا هو حادثة موت نيكولاس , إن هذه الجوانب من حبكة الفيلم تظهر أنه فيلم مشغول بشكل جيد تقنيا و إن كان أقل تعقيدا في العمق مما قد يبدو عليه في البداية وقد تعامل المخرج بذكاء مع تطور حبكة الفيلم وصولا للنهاية ,
هذا فيلم يقدم تساؤلات أكثر مما يقدم أجوبة , وربما هنا يكمن أحد أهم جوانب جودته وقدرته على مزج الحقيقة بالوهم , ومحاولته خداع المشاهد في كثير من الأحيان لجهة عدم التمييز بين الحدود التي تفصل بينهما , والتي تبدو غير واضحة تماما عند تريفور , فتفاصيل الحياة اليومية التي لا يعيرها بعضنا بعد الانتباه تبدو مهمة جدا عند تريفور فالولاعة في شاحنته تأخذ حيزا مهماً عنده و تنظيف أرضية الحمام وتدوينه لمشترياته، هذه التفاصيل ستظهر أهميتها عند الاقتراب من المشاهد الأخيرة للفيلم , ولايستطيع المشاهد التأكد من ذلك إلا حين يصل إلى نتيجة ترى أن إيفان هو في الواقع جزء من تريفور نفسه أو من خياله ،أو هو بالأحرى ذنبه الذي يطارده حتى يضطره إلى القيام بالخيار الصحي (تسليم نفسه للشرطة) .
كنهاية مقنعة أو على الأقل مرضية بحدها الأدنى لتفسير كل الالغاز التي احتواها الفيلم .
فعند رؤيتنا هذا الهيكل العظمي ينتابنا شعور غامض ،لكنه قوي بالتضامن معه كأن ترغب في إطعامه و الاعتناء به
حيث يقدم لنا البطل بطريقة مشوقة سواء من ناحية السرد أو التصوير .
وقد استطاع الممثل “كريستيان بل” تجسيد مشاعر الفزع و الهلع ببراعة ملفتة , حقا إنه دور استثنائي , ومع ذلك تبقى ميزة الفيلم هو القدرة على بعث أجواء ديستويفسكي بدقة عالية ,و التغلغل العميق في النفس البشرية و تصوير أكثر أفكار الإنسان خصوصية و أشدها غرابة, لاسيما تلك المشوبة بالشر الإنساني و الإيمان و عدمه و الجريمة اللامبررة، تلك الأفكار التي لانجرؤ على التصريح بها في العلن رغم أننا نفكر بها و تشغل حيز لابأس به من منظومتنا الفكرية وهي التي يعتبرها ديستويفسكي ميزة يشترك فيها كل البشر ,فكل واحد منا يمتلك قابلية الفعل المباشر أو غير المباشر للجريمة و الشر , بل نحن في حقيقة الأمر -وفقا لديستويفسكي- لسنا سوى أشرار نشعر بمتعة و لذة لرؤية عذابات غيرنا و مصائبهم.
حول هذه الأفكار و العوالم يحوم الفيلم حين يحاول أن بحاورنا عن الجريمة و الخلاص بطريقة يتداخل فيها شعور الخوف و التشاؤم بطريقة جدية وغير مبتذلة حيث لا يسعى المخرج لاستجداء غرائزنا ليثير فينا مشاعر الاستحسان للفيلم , بل يشدنا للفيلم حتى لآخر لحظة لمعرفة مصير تريفور من خلال خلفية مظلمة كئيبة تتناسب مع توجه الفيلم الأساسي الذي لا يخلو من ذكاء في التصوير و تكريس تلك الأجواء الضبابية في الحلم و الشعور بالذنب .
إنه فيلم صعب و مثير للقلق, وقد يرى البعض أن الفيلم تلوى كثيراً، مثل شخوصه، قبل أن يصل لخاتمته. ولكن يمكننا على الأقل أن نميز الوهم عن الحقيقة التي اختارها رزنيك ” أريد فقط أن أنام” هكذا يقول ، وهو يساق إلى زنزانته في النهاية و تركنا نأمل أن ينام بسهولة أكثر من معظمنا بعد مشاهدة هذا الفيلم القاتم كثير التلوي.