قبل ان نبدأ بمراجعة فيلم Da 5 Bloods ، فيعتقد “سبايك لي” أن للأفلام دوراً كبيراً في جعل الناس يتذكرون أشياءٍ غائبة عن ذاكرتهم، فالعقل الأمريكي من وجه نظره يعاني من ضمور فكري وانحراف ذاتي عن سلوكيات التعامل مع الفصائل الأخرى وقسوةٍ غير مبررة تجاه من هم أدنى منهم منزلةٍ و الحياة حملتهم على أرجائها دون تدخلٍ بها، ويتناسون الماضي و يتغافلون عن ما أرتكب فيه من فضائح تاريخية عنصرية على وجه التحديد تشهد بكل ما هو يسئ لهم ويظنونه أنه مبرر ولا تشوبه شائبة.
“سبايك لي” بدأ حملة الدفاع عن بني عرقه من الثمانينات، يعرض الحقائق المُرة من خلال أشرطته السينمائية ويعري الفساد، يقلب الطاولة على الأنظمة السائدة ويتمادى دون كلل، يصفع المشككين ويكشف مساوئهم، ولكنه يبث القليل من الأمل لعل القدر ينصف هؤلاء ويعي حقيقة أن هؤلاء بشر من لحمٍ ودم لهم حق المعيشة كحال غيرهم دون تفرقةٍ من أية نوع.
فهو ببساطة لا يخشي أحداً، تتذكرون جملة النجم “أحمد صيام” الشهيرة في فيلم “السفارة في العمارة” :”أنا لا أخشي تسجيلاتهم”، يستمر في فلسفته التي لقت الإستحسان أخيراً بعد عناء حينما تلقي جائزة الأوسكار في فئة السيناريو عن فيلمه الأخير “Blackkklansman” عن جدارة العام قبل الماضي، وإن كان البعض قد يفكر في أن يوماً ما يقدم “سبايك لي” عملاً بعيداً عن المعترك السياسي البحت بعد ظفره بالجائزة الأهم في صناعة السينما، فربما ذلك لن يحدث إلي أن تتحقق رسالته وتنم عن شئٍ يجد في الأمور أمور، ولكن ذلك لم يحدث حتى الآن وربما سيستمر ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يأتي فيلم Da 5 Bloods في وقتٍ حرج يعيشه المجتمع الأمريكي مؤخراً بعد مقتل الأسمر “جورج فلويد” علي يد الشرطة وإندلاع المظاهرات الحاشدة تنديداً بذلك تحت شعار “Black Lives Matter”، كأن “سبايك لي” يمتلك بلورة سحرية تكشف الطالع وتزيح الستار عن المستقبل المظلم للدولة فتجعله يستكمل ما بدأه في السابق، لأن القضايا التي عالجها الفيلم تتناسب طردياً مع يحدث حالياً، أو بالأحري هي نفس المشكلات التي يعاني منها مجتمع السود في أمريكا منذ قديم الأذل، ولكن تبقي المعالجة هي مفتاح الدخول لعالم “سبايك لي” النضالي، وهو ما تفوق به بالفعل في عملٍ قدم كل شئ ويستحق جميع الإشادات النقدية والجماهيرية.
فيلم Da 5 Bloods تدور أحداثه باختصار عن مجموعة من محاربي “فيتنام” القدامى الذين يعودون إلي أرض المعركة من جديد ولكن من أجل استعادة رفات أحد أصدقائهم القدامى يدعى “نورمان” المندفع والحصول على صندوق من الذهب دفنوه سراً خلال الحرب، وفي خلال هذه المهمة يتعارض الماضي بالحاضر وتعود الذكريات القديمة التي ربما تزيد من صعوبة مسعى هؤلاء الجنود وتقلب الطاولة عليهم في الوقت الذي يسعون فيه لتعويض ما فاتهم أو تعويض شعبهم كما كان عهدهم مع “نورمان” منذ زمنٍ بعيد.
البداية في فيلم Da 5 Bloods كانت ذكية بحق، يسدد بها “سبايك لي” ضربته المعتادة للنظام تاريخياً ومنها يعبر إلي قلب الحبكة حيث يشرع السيناريو في تقديم شخصياته الأربعة “بول” و”أوتيس” و”ملفين” و”إيدي” دون توفير كافة المعلومات عنهم نظراً للحاجة إليها في أوقاتٍ لاحقة خلال الأحداث، فهي بداية مثالية ترسخ الإطار الزمني والمكاني للقصة تمهيداً لما هو قادم،حيث أن السيناريو يقف علي مشارف نقاطٍ عدة تحرك الفيلم أماماً في الحاضر وتعود به إلى الماضي لفهم معطيات المهمة وإدراك تفاصيلها، يلعب “الفلاش باك” دورا هاماً في إبصار المشاهدين على حقيقة هؤلاء الجنود وقت الحرب والفترة العصيبة التي عايشوها هناك ألهبت حماسهم لتحقيق المجد من جديد واستعادة حقوقهم التي سلبها إياهم الزمن كما فعل مع ذويهم من قبل.
هذا لا يعني تأثر الخط الرئيسي في شئ، وهنا يلعب المونتاج دوراً كبيراً في الإنتقال السلس بين المشاهد وتثبيت “الفلاش باك” المناسب بلحظة الحاضر المرتبطة بها والتي تلعب على الجانب الحسي للشخصيات وذكرياتهم الأليمة آنذاك، إنهم يسعون لدفن السابق تحت أنقاض التراب والتنعم بالفرصة التي تم حرمانهم منها وقتماً كانوا أورطة بشرية قليلة الحيلة يساقون لحربٍ غامضة بينما كان يحاربهم الوطن كما لو كانوا دخلاءً من مكانٍ بعيد.
بمرور الأحداث، ينجح المشاهد في إدراك الحقائق بعيون الشخصيات، “سبايك لي” يتوارى خلفهم ويعلن السخط التام علي القيم المزيفة والخداع الزائد للناس عن حرب “فيتنام” والترويج الخاطئ لأهدافها التي لم تكن سوى حفنةٍ من الكوارث التي لحقت بالأشخاص الغير مناسبين وفي وقتٍ غير مناسب أيضاً، ولهذا يحسب ل”سبايك لي” حنكته في استيفاء الفيلم لرؤيته وفي الوقت ذاته تتماشى أحداث الخط الرئيسي من أوله إلى آخره.
ربما يعيب فيلم Da 5 Bloods بضعة عيوبٍ بسيطة ساهمت في إطالة زمن الفيلم قليلاً وتعديه مدة الساعتين ونصف الساعة من حيث إعادة تكرار بعض التفاصيل والتمادي في اللغة الحوارية بعض الشئ على غرار أفلامه السابقة، ربما أراد “سبايك” أن يكون المشاهد على دراية بمفهوم الفكرة بوضوحٍ شديد دون عناءٍ في استيعابه، ولكن علي النقيض، الفيلم لا يعاني من أية تعقيداتٍ سردية قصصية ،بل إنه يمتاز بالسلاسة في العناصر المذكورة سلفاً والأهم من ذلك يحوي بين ضفريه المتعة الازمة في الوقت العصيب الذي يعيشه العالم حالياً.
إخراجياً فيلم Da 5 Bloods كانت إختيارات “سبايك لي” المتعلقة بفلسفة العرض والصورة متنوعة إلي حدٍ كبير، حيث نجد مشاهد “الفلاش باك” معروضة داخل إطارٍ مرئي بلغت سعته 16 مم فقط، بينما تتوالى أحداث الخط الرئيسي بالنمط المعتاد للصورة السينمائية، هناك إعتمادٌ أيضاً علي أسلوب كسر الحائط الرابع كما يعرف عن السينما الحديثة مؤخراً بجانب تصوير حالات الشد والجذب بين الشخصيات بتنقلاتٍ سريعة بالكاميرا بينهم تماشياً مع الإيقاع.
كما أن تصميم مشاهد الحروب والأكشن لم تتسم بالصخب الدموي المبالغ فيه بل هناك وسطية واضحة للعيان في هذا الشق بالتحديد بين شراسة الموقف ومحدودية الأفكار فيها، كل ذلك ربما يكون تذكرة ترشح “سبايك لي” للأوسكار في فئة الإخراج من جديد حاله كحال السيناريو الذي لا مفر من ترشحه عنه مهما كانت المنافسة و الأفلام المرشحة للمنافسة على الجوائز حينها.
الكل ارتدى قفاز الإجادة على مستوى التمثيل في فيلم Da 5 Bloods بكل تأكيد، لكن ما من أحدٍ نجح في خطف الأضواء مثلما فعل “ديلروي ليندو” الذي استفاد حرفياً من عناية “سبايك لي” بشخصيته علي وجه الخصوص، تجسيد مثالي لمشاعر الرهبة والصدمة من تبعات الماضي، غلظة في الإنفعالات وتوحدٍ ذاتي مع طبيعته القاسية، تدقيق ارتجال المشاعر المناسبة في عديد اللحظات، لربما سيكون مخطئاً من لن يمنح هذا الرجل تكريماً ما نظير هذا الأداء المطعم بالبراعة والدقة المتناهية في التقمص، فقد أدرك جاهزيته المثلى للدور ما لن يستطع أي نجمٍ مهما بلغت حجم أهميته وموهبته في تقديم أداءٍ يشبهه في كافة تفاصيله، وليتذكر الجميع هذا الإسم جون نسيانه فمازال موسم الجوائز بعيداً لم يحين موعده السنوي بعد.
خلاصة فيلم Da 5 Bloods
وفي الختام، يبقى ما صنعه “سبايك لي” تذكيراً أخر مهاراته في صناعة السينما بصرف النظر عن ماهية الأفلام التي يختار العمل فيها، وأيضاً رؤية استفزازية مريرة للتاريخ المظلم للولايات المتحدة وأجندة الأكاذيب خاصتها، رحلة سينمائية في قلب أحراش “فيتنام” يختلط فيها السابق بالاحق والرغبة بالأنانية يطلق من خلالها “سبايك لي” رصاصته التي لا تزال في جيبه علي قلوب المعادين ولكنه يتشبث بالمعهود والمتعارف عليه مانحاً الجمهور أطروحة سينمائية تحمل بكل تأكيد ذروة ما وصل له “سبايك” من مقدرة على الإبداع في المعترك السينمائي.