فيلم الكيت كات (1991) ، تأليف إبراهيم أصلان ، سيناريو وحوار وإخراج داود عبدالسيد ، بطولة : محمود عبدالعزيز ، أمينة رزق ، شريف منير ، نجاح الموجى ، على حسنين ، أحمد سامى عبدالله ، أحمد كمال ، أمل إبراهيم ، جليلة محمود ، عايدة رياض .
يعد فيلم الكيت كات أحد أعظم كلاسيكيات السينما المصرية .
فى حى الكيت كات ، تبدو شخصية الشيخ حسنى الكفيف “محمود عبدالعزيز” كراصد ليوميات أبناء الحى ونبض لهمومه الحقيقية ، التى يتسامر عليها رغم فقدانه البصر وزوجته وعمله ، يعيش الشيخ حسنى مع أمه المسنة “أمينة رزق” وإبنه يوسف الشاب المحبط “شريف منير” ، دون أن يتخلى عن الأمل والبسمة والضحكة ، كانت هوايته الغناء ليلا فى جلسات تدخين المخدرات لكى ينسى واقعه المظلم بعد بيع منزله .
إنها بصيرة القلب التى تغدق على أصحابها سعادة حقيقية ، التى تجعلهم يستشعرون قيمة الأشياء مهما كانت بساطتها ، والتى تجعلهم يدركون معنى الرضا عن يقين تام ، فالسر ليس فيما يغيب عنا من نعم ، ولكن فيما يحققه هذا الغياب من إكتفاء صادق وصقل مبهر لإرادتنا وقناعاتنا ، حتى يمنحنا الإحساس الصادق لما هو أكثر مما فقدنا .
الشيخ حسنى كان يأبى دائما أن يعترف بأنه رجل كفيف ، وتمسك بنعمة البصيرة ، لقد إستطاع أن يمتطى جواد أحلامه لكى يقهر ظلام عالمه ، فقرر أن يقتنص بهجة الدنيا وفلسفتها على طريقته الخاصة .. ولأن عالمه ملئ بالسخرية والتناقضات ، فقد لونه بفرشاة الخيال والغناء تنفيسا عن آلام وحدته ، وغرق فى تفاصيل المحيطين به تحديا لإعاقته ، كان يشدو أينما حاصرته الشكوى وإعتراه الحزن ، لكى يتصالح مع حياته ثم يعود مستأنفا رحلته فيها .
إستطاع الشيخ حسنى أن يخلق لنفسه عالما خاصا ومتفردا ، فقد كان يحظى بشعبية كبيرة فى منطقته ، وفى نفس الوقت يمتلك منزلا ، ولكن بسبب حبه للحشيش ، يضطر لبيع البيت إلى “الهرم” تاجر المخدرات .
تفاصيل الفيلم كانت متعددة ومتشعبة ، حيث تتساقط أسرار سكان الحى فى جعبة الشيخ حسنى ، الذى يصبح على علم بضعف إبنه الجنسى مع حبيبته فاطمة “عايدة رياض” ، وخيانة فتحية “جليلة محمود” لزوجها مع الهرم “نجاح الموجى” ، وفضحه لصبحى الفرارجى ، ويتجلى ذلك عندما يقيم الشيخ حسنى عزاءا لبائع الفول عم مجاهد “أحمد سامى عبدالله” ، ولكن صبى الكهرباء يترك الميكرفون مفتوحا ، وأثناء جلسة الشيخ حسنى مع أصدقائه ، يقوم بفضح كل هذه الأسرار ويكشف المستور عن الجميع .
يحمل الفيلم بطياته مجموعة من الرسائل المهمة ، ولكنها بسيطة فى نفس الوقت ، قد يراها البعض سياسية ، بينما يراها الكثيرون إجتماعية بحتة ، والتى تعبر عن حالة العبثية فى المجتمع المصرى ، التى قد تصل بنا إلى اللامعقول ، والتى تتجسد فى مشاهد الشيخ حسنى ، ولكن أبرزها طريقة قيادته ل”الفسبة” الجديدة لسليمان الصايغ “أحمد كمال” فى المنطقة .
الكيت كات هو ملحمة المهمشين والفقراء فى المجتمع المصرى ، فقد إستطاع داود عبدالسيد أن يصنع سيناريو عبقريا وحيا من واقع المهمشين المكسو بالفقر والجهل والخرافة والعاهة .
فى الكيت كات ، كل جيل يحاول أن يلقى باللوم على الجيل الذى يسبقه ، لا أحد يريد أن يعترف بأخطائه ، فالكل يتهرب .
لقد صنع الجيل القديم المجد عندما حارب وناضل ضد الإستعمار البريطانى والفرنسى والإحتلال الإسرائيلى ، حتى إستطاع أن يطردهم جميعا خارج البلاد ، ليأتى بعد ذلك ويلوم الجيل الجديد على تشتته واللامبالاة التى تلاحقه .
شخصيات الكيت كات ما بين الشيخ حسنى وإبنه يوسف والهرم والمعلم صبحى الفرارجى وغيرهم ، تشعر أن بينهم رابط قدرى غير مرئى ، دائرة متصلة لا يمكن تحديد نقاطها ، صورة قاتمة شاحبة ألوانها .
الكيت كات هو فيلم “مكان” بإمتياز ، فكل الحكايات الصغيرة المنسوجة ، هى رهن المكان ، فالمكان هو العنصر الفاعل الذى يؤثر فى خط سير الأحداث .
فى أول مشاهد الفيلم ، عم مجاهد بائع الفول “أحمد سامى عبدالله” كان يعاتب الشيخ حسنى على بيع بيته ، والشيخ حسنى كان يشتكى له من زيادة المصاريف الخاصة بحياته وحياة أمه وإبنه ، وأنه كان لا يقدر على دفعها سوى ببيع البيت .
وفى آخر مشاهد الفيلم ، وهو المشهد المفضل بالنسبة لى وللكثيرين ، وهو يعبر عن عتاب الشيخ حسنى لعم مجاهد بأنه يظلمه ولا يدرى بما كان يعانيه الشيخ حسنى من ظروف صعبة ، ويشرح له الشيخ حسنى أن المصاريف غالية ، وأن إيجار القهوة المقدر ب “خمسة جنيهات وستين قرشا” لا يكفى سوى لدفع فاتورة المياه ، وأن أمه “أمينة رزق” قد أعطته توكيلا بمرتبها ، ثم يذكره بأن الحشيش هو الذنب الوحيد الذى فعله فى حياته ، بعد وفاة زوجته ، لأنه لم يجد أنيسا لوحدته ، وعوضا عن ذلك كان يحدث الناس فى جلسات تدخين المخدرات ، وهو يفضفض ويضحك ويغنى ، إلى أن توافيه المنية ، وبنهاية المشهد وبنبرة حزينة يوجه الشيخ حسنى أسئلة لعم مجاهد : كنت فين أنت يا عم مجاهد ؟! ، قدرت تعمل إيه ؟ لما مرات أبويا خدت منى الشقة وإدتيها لولادها ، ثم يذكره : الحكاية مش حكاية البيت يا عم مجاهد ، المشكلة مشكلة الناس اللى عايشة ولازم تعيش ، ويطلب منه ألا يظلمه وهو يذكره بأن “مغرفة الفول” التى كانت تساوى “مليما” أصبحت “بنصف ريال” ، ثم يلقى عليه السلام ويذهب ، ثم يعود ويطلب منه أن يسامحه ، ولكنه عندما يدنو إلى يده ليقبلها ، يدرك أن عم مجاهد قد فارق الحياة .
الكيت كات هو أحد أفضل أعمال الفنان الكبير محمود عبدالعزيز طوال تاريخه السينمائى العظيم .
موسيقى البسكاليا الرائعة للعبقرى راجح داود ، التى كانت توحى بحالة التخبط وقلة الحيلة التى أصابت “الشيخ حسنى” فور علمه بمفارقة الروح لجسد “عم مجاهد” ، ذلك الجسد الواهن منه العظم الملقى فى عربة يد بدائية ، والشيخ حسنى لا يقدر على شئ سوى حمله فى العربة والسير به لكى يدفنه ، وهو ما يوضح أن الشيخ حسنى قد صنع معروفا لعم مجاهد .
كل ذلك بجانب الأغانى الشعبية البسيطة الرائعة التى تملأ جنبات الفيلم ، والتى قام بكتابتها شعراء كبار مثل صلاح جاهين ، وقام بتلحينها الرائع سيد مكاوى ، والتى أعطت للفيلم نكهة الحارة الشعبية المطلوبة .
الشيخ حسنى كان يتحسس البيوت ، ويخزن رائحة الحوارى والأماكن التى كان يعبر خلالها ، حالة أشبه بقرون الإستشعار عن بعد ، التى تمتد لتتفحص الآخرين بين صديق وعدو .
الكاميرا كانت تتحرك فى سيمفونية مكتملة ، تلتقط شروخ الجدران ، ركام الأثاث المهمل ، والسجاد المترب على الأرضية .
أيقونات صغيرة توحى بالعجز والحرمان والأضواء الباهتة ، التى ترصد فوضى المجتمع وإنكساره .
نجد الشيخ حسنى الذى يمثل الجيل القديم ، يجلس مع إبنه يوسف الذى يمثل الجيل الجديد بتمرده وشجونه ، نجدهما قد إندمجا فى الغناء سويا ، بكلمات من تأليف المبدع الراحل سيد حجاب ، كان مطلعها : “يلا بينا تعالوا .. نسيب اليوم فى حاله .. وكل واحد مننا يركب حصان خياله” ، لتصنع أغنية من أمتع أغانى التراث السينمائى ، والتى هى أحد “معلقات” عم سيد حجاب ، والتى تعطى رسالة لكل من شاهد هذا العمل الخالد ، رسالة مفادها أن دعوكم من كل الشجون والإنكسارات ، ودعونا نركب حصان خيالنا ، ونطير لنحلم بواقع أفضل وأجمل ، واقع يمكن أن نجد فيه “الغلابة .. فى أول الصفوف” .
مشهد النهاية ، عندما يقود الشيخ حسنى “الضرير” موتوسيكل وخلفه إبنه يوسف “الخائف” من قيادة والده ، حتى يسقطا فى النيل ، فيخرجا والمياه تغمرهما ، فيقول يوسف لوالده ضاحكا : ” يابا أنت ليه مش عايز تصدق إنك أعمى ، يابا أنت راجل أعمى” ، ليرد الشيخ حسنى بجملته الشهيرة : “أنا أعمى يا غبى ؟! ، ده أنا بشوف أحسن منك فى النور ، وفى الضلمة كمان” .
ربما إعترانا جميعا هذا الشك أثناء مشاهدتنا للفيلم ، وسألنا أنفسنا “هل الشيخ حسنى بالفعل كفيفا أم أنه يرى جيدا مثلنا” ؟