ترددت كثيراً في محاوله الكتابه عن هذه التحفه الفنيه … لا استطيع القول عنها انها مجرد فيلم بل هي تجربه استثنائيه … محاوله لفهم الحياه من جديد محاوله للتعمق في خبايا واسرار هذه الحياه التعيسه انها تجربه من رحم المعاناه حيث يولد الألم حينما يسيطر البؤس علي هذه الحياه ويخيم عليها بظلاله …. الظلام بداخلنا وكل شئ حزين انها الحقيقه الأبديه … البؤس السرمدي الذي لن ينتهي …
الفيلم مليئ بالكثير من المشاهد التي قد يصعب علي المشاهد تفسيرها او فهمها ولكن دعونا نصل الي ادق وصف قد توصف به هذه التجربه وهو قول تاركوفيسكي في كتابه النحت في الزمن .
” في السينما من الضروري الا تقوم بالتفسير لكن العمل علي المشاعر والشعور المتولد هو من يحفز الفكر “
– اي لا يجب فهم كل شئ بل عليك فقط الشعور بالاشياء وجمالها وما اجمل ان تلمس الاشياء الجميله وتراً حسياً بداخل الإنسان …
المرآه هي تجربه تتحدث عن كل شئ … عن الحب والزمن عن الحرب عن الأحلام والذكريات … عن المعاناه والندم ..
افتتاحية الفيلم هي من اغرب الافتتاحيات التي شاهدتها في السينما حيث يظهر علي الشاشه شاب صغير يتلعثم وتتم معالجته بطريقه غريبه يصعب علي المشاهد فهم ماهيتها هل هو مشهد مبهم من تاركوفيسكي اراد به تجهيز المشاهد للتجربه المبهمه التي سيخوضها ؟ ام هي مرحله حياتيه في حياه الراوي حيث يعاني من التلعثم في فتره من حياته نتيجه الخيبات والصدمات المتتاليه ؟
– يبدأ الفيلم بإمراءه تجلس علي سياج في مكان منعزل بعيداً عن البشر وعن سبل الحياه يجاورها طفلاها ويبدو علي المرأه الوحده الانعزال الكأابه من اول وهله حين النظر الي وجهها وملامحها التي شوهها الزمن … انها المرأه الأجمل التي رأيتها في حياتي ولكن الحزن يطغي …
– خط الاحداث الرئيسي في الفيلم ليس خط واحد مرتب وله سيناريو متصاعد بل مجموعه من المشاهد المتقطعه هنا وهناك بين الاحلام والذكريات والحقيقه احياناً مشاهد الحرب ومشاهد المعاناه … والمرض … السوداويه تطغي علي ملامح التجربه …. هذا التكنيك في طرقة السرد يسمي
Stream of consciousness
وهو عرض الأحداث بشكل غير مرتب …
فهنا امرأه يتركها زوجها ويذهب للحرب يهجرها وحيده مع طفليها هائمة علي وجهها متلطمه بين خيبات الحياه … هنا يظهر لنا تاركوفيسكي اثر الحروب الحقيقي انه ليس الأجساد الميته في ارض المعركه بل انها الاجساد الحيه التي تُركت لتتعذب ارواحها في هذه الحياه .. ما ابشع الحرب !
– لدينا الطفل الذي كبر وحيداً وترعرع علي يدي امه .. الذي عاني من فقد اباه وهو صغير مما سبب له عقداً نفسيه هو الأن بعيد عن امه … منعزلان عن بعضها البعض .. الزوجه تشبه امه .. هل الحياه تتكرر ؟ هل الرجال متشابهون وسيترك زوجته كما فعل ابوه ؟ اسئله كثيره تخطر ببال المشاهد عند سماع صوته في محادثته مع امه ومدي بؤس هذه المرأه التي عانت طويلاً … الراوي يعاني الكثير لكننا نشعر بأنانيته بعض الشئ فلا ذنب لهذه المرأه فيما حدث … ولا ذنب لهذا الصغير فيما حدث له ومعاناته وبؤسه الذي يعيشه ولكن هذه هي الحياه … كلٌ يهتم لنفسه لا أحد يري غير نفسه … انها طبيعة النفس البشريه الأنانيه وتقديس النفس … ليس الجميع يعرف معناً للتضحيه أيتها الإمرأه …
– مشاهد متقطعه لسرد معاناة الأم التي عاشتها لحظات من الألم مع اطفالها .. محاربتها لوحدتها ومحاولة التغلب عليها … عملها الذي تهاب الخطأ فيه … وبرغم ذلك لم تنسي اطفالها ولم تستطع حرمانهما من حنان الأم وخوفها … هي امرأه وهبت نفسها للحرب وهبت نفسها للذكريات والأحلام تركت نفسها للظلام …
– التجربه التي امامنا ليست عباره عن مجموعه من المشاهد المركبه بل هي لوحات جماليه في غاية الشاعريه صاغها لنا تاركوفيسكي بحرفيه متقنه وشديده كما يرسم فان جوخ لوحاته او كما يتقن بيتهوفن مقطوعاته الموسيقيه إنها اشبه بعبارات المخضرم ديستوفيسكي ولكن تم التعبير عنها بصرياً .
– انه حتماً التصوير المثالي فنري الكاميرا تتحرك يميناً ويساراً ببطئ شديد وكأننا في اوج التجربه نعيشها ونشاهد تفاصيلها نذهب للزوايا المظلمه نتعمق بداخل ارواحهم ونري انفسنا في وجوه الشخصيات نشعر بمعاناتهم ومأاسيهم نري الجوانب المظلمه من الحياه .. ابداع الخالق في رسم الطبيعه والمناظر الجماليه التي لا يدركها سوي من يدرك الجمال بقلبه … الكادرات تشبه اللوحات الزيتيه متقنة الصياغه وحسنة الالوان … الاضاءه والالوان يظهرون لنا الفرق الذكريات والأحلام والحقيقه … ولكن احذر لا تعتمد علي المشاهد وحسب في فهمك بل اترك لخيالك العنان واجعل قلبك هو المدرك الوحيد لأنك امام تجربه شعوريه وحسيه اكثر مما هي سمعيه وبصريه فلا تخدعك المظاهر بل شاهد بقلبك …
– ولأول مره اري الشعر يرتبط بالفن السابع بل ويعبر عنه بإتقان يلمس المشاهد ويحرك مشاعره بل ويعمل علي ايقاظ جميع المشاعر والحواس التي ترك الزمن اثاره عليها وغطاها التراب …. للموسيقي الشاعريه اثر كبير في اعماق الإنسان فما بالك اذا اجتمع الإثنان وكانا في انسجامٍ تام ليسبح المشاهد في عالم موازي يشعر فيه أنه الوحيد ولا أحد يعاني غيره …
– يقول انجمار بيرغمان عن فيلم المرآه .. إكتشافي لأول أفلام تاركوفسكي كان أشبه بالمعجزة. فجأة, وجدتُ نفسي واقفاً عند باب حجرة لم يعطني أحد -حتى ذلك الحين- مفتاحاً. إنها الحجرة التي أردتُ دوماً دخولها, والتي كان هو يتحرك فيها بحريّة وراحة تامة. شعرتُ بالتشجيع والتحفيز, فثمة شخص يعبّر عمّا كنتُ أرغب دائماً في قوله لكنني لم أكن أعرف كيف أفعل ذلك. تاركوفسكي في نظري هو الأعظم, هو الذي ابتكر لغة جديدة تعبّر تماماً عن طبيعة الفيلم, ذلك لأنها تأسر الحياة كانعكاس.. الحياة كحلم.
-مشهد النهايه هو من المشاهد التي تترك اثراً حقيقياً وعميقاً بداخل كل من يراه فنري الامرأه مستلقيه علي ظهرها وسط الحقل ويعلو وجهها ابتسامه وتضحك من القلب فلا تدري اهذه هي الحقيقه التي فقدتها ؟ اهذه فعلا هي ذكرياتها ؟ ام كل ما حدث جزءاً من احلامها المشوهه !! … مهما اختلفت التفسيرات ومهما كان ما نشاهده حقيقهً او خيال يكفي ان هذه التجربه لمست مابداخلنا وتركت اثراً فيه ..
لكلٍ منا احلامه ، ذكرياته ، معاناته ..
“كلٌ منا مرآه نفسه “
Comments are closed.