في بداية مراجعة مسلسل بين السما والارض، يمكن القول بأنه لطالما احتاجت الدراما المصرية للمزيد من التطوير والإبداع خارج صندوق ال٣٠ حلقة الذي امتد أثره منذ عشرات السنين، هذه المصيدة المضادة للتكامل والمثالية في الأعمال التلفزيونية كانت سبباً في إهدار العديد من الأفكار القصصية والرؤي الفنية التي تبشر بما هو مختلف فعلياً داخل فواصل من المط والتطويل التي تقيد وصول المشاهد للمتعة الذي يرغب بها داخل مواسم شهر رمضان المبارك السابقة.
ربما إستغرق صناع المسلسلات وقتاً كثيراً لمعرفة ذلك، ولكن إن كان التغيير الحاصل سيحدث الانتعاش المطلوبة التي تعكس السلبيات المذكورة سلفاً، فربما ينسي البعض ما فات وجري شريطة إيجاد الطرق المناسبة التي تمهد لدراما أكثر نضوجاً تدور في مدة زمنية قصيرة وفي أقل عددٍ من الحلقات شأنها شأن المسلسلات الأميركية ونظريتها الاوروبية.
مراجعة مسلسل بين السما والارض
مسلسل “بين السما والارض” في إيجاز هو أفضلُ عملٍ درامي في رمضان ٢٠٢١ من وجهة نظرٍ شخصية أعجبت بكافة ما تم تقديمه علي مستوي القصة والسيناريو والتمثيل وخلافهم، عملٌ إمتلك جميع مقومات النجاح واستغلها بالشكل الأمثل، والتي تتمثل في مخرجٍ واعد قادمٌ من السينما بمعرفة ممتلئة بأساسيات صناعة عملاً جيداً.
إنطباع ال10 حلقات الأولي من مسلسل النمر
ومؤلفٍاً شاباً قيل له أن لأعماله مذاقاً خاصاً بالتحديد في لغته السردية الفريدة من نوعها، وباقة من أهم نجوم الساحة الفنية سواءاً كانوا من الشباب أو حتي المخضرمين والمداومين علي الظهور متي تحين لهم الفرصة، مسلسلُ درامي لعب علي فكرةٍ صغيرة بقصة شهيرة ليست بالروائية للاديب الراحل “نجيب محفوظ” ومد تفاصيلها بأسلوب فذ يكشف حقيقة الإنسان إن فاض وجدانه بالخبيث من الدوافع، وما سيحدث ان جمع القدر بين الخير والشر في مأزقٍ واحد عالقاً بين السماء والأرض.
قصة مسلسل بين السما والارض
تدور أحداث مسلسل بين السما والارض عن قصة الاشخاص العالقين بمصعد إحدى العمارات السكنية، وبينما يصارع من هم بالخارج لنجدتهم، تنكشف عديد الأسرار عنهم ويبان ظاهرياً كيف أن لكل واحدٍ منهم حكايةٍ وماضيٍ مدجج بعديد التفاصيل والخبايا.
يكمن السبب الرئيسي لنجاح مسلسل بين السما والارض هي طريقة السرد اللي ابتدعها “إسلام حافظ” مؤلف العمل حتي في أعماله السابقة “علامة استفهام” و”قمر هادي”، والتي لا تعتمد علي المباشرة في طرح القصة، وتؤسس لعدة خطوطٍ للأحداث متنقلة بين الماضي والحاضر تساهم في استيعاب المشاهد لحقائق معينة كدوافع الشخصيات علي سبيل المثال سيبني عليها الكثير لاحقاً حين الوصول لمراحل مفصلية في قصة العمل.
الأمر يشبه لعبة المكعبات حينما تضع مكعباً فوق الاخر فيصير هناك مبنيٍ أو تصميمٍ كامل، هكذا كان أسلوب “إسلام حافظ” الذي يبني أحداثه حلقةً تلو الاخري من خلال العودة لما سبق تزامناً مع السير الطبيعي، فتصير الصورة العامة الفكرة واضحة يسهل علي المشاهد تدبر معانيها وما ترمز إليه.
في حالة مسلسل بين السما والارض، بدأ المسلسل من النقطة المحورية والمعروفة في القصة الأصلية، وظل سيناريو العمل يتردد بين استمرارية القصة من تلك التفصيلة، ويدرج معها عناصر إضافية تتعلق بالشخصيات وأهدافهم الخاصة وما يحويه كل واحدٍ منهم من أسرار، وكل ذلك ساهم في تعلق المتلقي بالمسلسل وترقب معرفة المزيد من تلك الأمور التي أدت للمعضلة الأساسية للمسلسل وما ان تم الأمر محض الصدفة البحتة أو هناك تدابيرٍ معينة يكنها الشخصيات لبعضهم البعض.
لم ينتهي المسلسل بنهاية عادية تطرح رسالة العمل بشكلٍ مباشر، بل عمل “إسلام حافظ” بطريقةٍ ذكية علي تبريرها ليس فقط من تسلسل النهاية الاخير، بل من الحلقة الرابعة العشر أيضاً التي مهدت بميلودراما مؤثرة لما سيحدث لاحقاً والارثاء الغير مباشر لما تترتب عليه فكرة المسلسل، إنه حقاً عملٍ استثنائي يخلو من أية سلبيات وبلا أدني مبالغة في واقعية الموضوع المقدم علي طاولة المشاهد في رمضان ٢٠٢١، وبهذا يعد سيناريو مسلسل بين السما والارض الافضل في رمضان ٢٠٢١ عن جدارة واستحقاق.
يقف خلف عدسات الكاميرا المخرج الشاب “محمد العدل” ،أو “ماندو” كما يلقبه البعض، القادم من تجربة سينمائية متميزة وهي “صاحب المقام”، حيث نجح في أصعب تحديات المسلسل ألا وهي احتواء ذلك العدد الكبير من الشخصيات داخل كادرٍ واحد وضيق ومثير للخنقة.
وقد تم ذلك من خلال تسليط الكاميرا بعديد اللقطات القريبة “Close ups” التي تعكس حالة الرهبة والتخوف من مصير الموت داخل رواق المصعد المعطل، ويبرر من خلالها الشخصيات ما بداخلهم من شحنٍ عاطفي ومبرراتٍ لتصرفاتهم في السابق وغيرهم من أمور، حتي علي مستوي المونتاج جري ترتيب المشاهد بتاريخ حدوثها يسبقها تلميحٍ مرتبط بتاريخ دخول الشخصيات لمصعد عمارة “العشري”، وأيضاً إختيار الوقت المناسب لتقديم مشاهد خاصة تتعلق بشخصية علي مدار الحلقات جميعها.
الثناء علي “ماندو العدل” ليس في الأدوات الإخراجية فحسب، بل من الاختيار المثالي لطاقم التمثيل الذي لن توفيهم عديد الكلمات والعبارات شيئا مما قدموه من إبداعٍ في التجسيد والميثود أكتينج وإرتجال الانفعالات المناسبة من غضبٍ وحزن وريبة وقلق وما إلي ذلك من تعبيرات، والمذهب في الأمر أنه لا يوجد بطلٍ أوحد للعمل، هم “هاني سلامة” معه “أحمد بدير” و”سوسن بدر” وبقية النجوم، فلا يذكر منهم واحداً بذاته علي حدي.
ولكن من أمكنهما لفت الأنظار بشكل خاص هم الثنائي “محمود الليثي” ومحمد ثروت” الذي تعود منهم الجمهور علي تقديم الكوميديا والمواقف التي تعلو معها الضحكات، المسلسل هنا يشهد تغيراتٍ جذرية لكل واحد منهم وأصبحوا عناصر أساسية في قوة الجانب الدرامي من المسلسل، الليثي بنظراته الصارمة المريبة التي تحمل غلاً وغضباً متقد علي ما آلم به في السابق.
وثروت باجادته لمشاعر الجنون والاضطراب الذي لم يكن له يدٌ فيه، وأيضاً باحساسه العاطفي الذي تجلي في إحدى أفضل مشاهد المسلسل بالحلقة السادسة، وعليه نجح للمسلسل في أن منحهما نقطة إنطلاقٍ مختلفة في مسيرتهما كممثلين يستطيعا أن يقدما أعمالاً مشابهة ولا يقتصر الأمر علي تقديم نوعية واحدة من الأدوار فقط.
في الختام، مسلسل بين السما والارض هو توليفة درامية تقطر إبداعاً سردياً وقصصياً وتمثيلياً، وبداية موفقة لتجربة الخمسة عشر حلقةً خالية من الإطالة في الأحداث والحوار بطريقةٍ مبالغ فيها،والأهم من ذلك أنه معالجة ذكية في عناصرها لقصة قصيرة تمتلك ما يصلح لتقديم إمتدادٍ فني لها، ويكون ثرياً للغاية فيما يعرضه من محتوي يستعرض بشكلٍ موسع الجوانب المظلمة في حيوات البشر.