في بداية مراجعة فيلم فيلم The Worst Person In The World، يجب القول أنه أصعب ما قد يمر به البشر هو عدم الاستقرار الذاتي والمعنوي وعدم معرفة ما يرغبون في فعله والدوام عليه لفترةٍ طويلة دون أية عوائق أو منغصات تعيق سلامهم النفسي مع الدنيا وتحيل بهم للانشطار النفسي الناتج عن حيرة الإختيار والتخبط المستمر والإحساس بالتأخير في اتخاذ القرارات المناسبة.
تخيل عزيزي القارئ البعض من الناس بعيداً عن هؤلاء المنعمين بالحياة الهنيئة (وكامل التحية والتقدير لهم على ما انجزوه) يومياً يتسارع بهم الوقت وتتوالى كثير المعطيات في المثول أمامهم دون أن تمتد الأيادي لإلتقاط الشئ المناسب وتحقيق كافة الأهداف متغلبين على طاقاتهم السلبية بدواخلهم التي لا تصيبهم سوى بتشوش مستمر والتباس كل الأمور مع بعضهم البعض، فيصير الوضع كما هو عليه.
صورة واقعية ملموسة في الوقت الحالي بكل صعوباتها وتأثيراتها النفسية التي تعتبر بمثابة الوباء الألعن من الأمراض المعروفة للجميع كالضغط والسكر وغيرهم، وهي تقدير الذات للشئ الوحيد الذي يكمل نواقصها ولا يجعل وجودها بلا غاية في الحياة وتعاني من مأزقٍ وأزمات متكررة نابعة من عدم القدرة على الإختيار.
في فيلم The Worst Person In The World، يعكف المخرج النرويجي “خواكيم ترير” بصحبة “اسكيل فوجت” على تصوير تلك الأزمة الإنسانية على مراحل متعددة وفي فصولٍ متناسقة مع بعضا البعض في السرد وطرح الفكرة، ولكنها صادمة في محتواها تتحرى الشفافية وتتعمد الاسهاب كي يعرف الجميع معاناة كثيرٍ من البشر من معضلاتٍ حياتية وانعدامٍ تام في تقبل أي شئ والتردد بين كافة الاختيارات المتاحة دون ثباتٍ على شئٍ معين.
مراجعة فيلم parallel mothers – تحفة فنية من وحي لغة بيدرو المودوفار السينمائية
قصة فيلم The Worst Person In The World
تدور أحداث فيلم The Worst Person In The World عن “جولي” التي تواجه تخبطاتٍ عديدة في حياتها نتيجة عدم تكيفها مع الظروف المحيطة بها والقرارات التي تتخذها وتشعر بعدها بحالة من عدم الارتياحية، ويركز العمل أيضاً علي تأثير أفعالها علي من حولها وانعاكسه علي “يوليا” شخصياً.
مراجعة فيلم The Worst Person In The World
من إيجابيات سيناريو فيلم The Worst Person In The World توازنه في تقديم نوعيات مختلفة من الأفلام ان أن تتوه الفكرة وسط ما يريد النص قوله، هو في الأساس يعد دراسة دقيقة لشخصية البطلة يصيغ أحداثه بناءاً علي قراراتها والحالة الحسية التي تخضع لها وتجعلها في متاهة روحها الحائرة لا تعرفوا السبيل لما ترغب فيه.
ولكنه في الوقت ذاته يقدم لمحاتٍ من الرومانسية الممزوجة ببعض الكوميديا ولغرضٍين هامين في القصة أولهما تسليط الضوء جانباً معيناً في حياة “جولي” تصل فيه لنشوة الانتصار علي الارتباك الدائم التي تعاني منه في تقرير مصيرها وتحديد مبتغاها، البعض قد يري هناك مبالغة في تصوير جوانب علاقات “يوليا” الاثنين، ولكن من يعي الفكرة ورؤية “خواكيم ترير” يدرك ذلك القرار بالتغلغل أكثر لحظات “يوليا” السعيدة بالنسبة لها.
والثاني يعكس التقلبات التي تمر من خلالها أية علاقةٍ، ولكن هنا المثير للانتباه أن الأمر ليس تقليدي والمشكلات التي وقفت حاجزاً ضد الحب المحتدم الذي رأيناه يأتي لأسباب تخص “جولي” ورغباتها في الاستقلالية وعدم التكيف علي أوضاعٍ تفرض تحكماتٍ من الغير عليها ويصير ذلك حاجزاً قوياً وبين رغبتها في تدبر الامور لعلها تدرك غايتها.
شكلية بالغة الروعة يقدمها “خواكيم ترير” يعكس الظواهر المعتادة في العلاقات العاطفية، وينجح في ربط كافة الخطوط من أجل أن تدور العجلة السردية وتستقر عند “يوليا” نفسها الذي يأتي تصميم شخصيتها ملائم لطبيعة مدرسة “ترير” الفنية الذي دائماً ما تفرض علي شخصياتها حالة الاضطراب والفتور النفسي دوماً، فتقارب بذلك الواقع وتتهيئ عليه بمعالجة سينمائية مناسبة، فينتج عنها تواصل محكم وفعال بينها وبين المشاهد الذي يحدد بسهولة موقفه من الشخصيات ويفهم كافة معطيات السيتاريو ويدركها جيداً.
تميز “خواكيم ترير” ليس فقط في السيناريو، بل في الطريقة التي قدم من خلالها إخراجياً بعض اللحظات الشاعرية التي ترمز لأوقاتٍ تنعم فيها “جولي” بالسعادة التي تبدد صراعها النفسي وتخوض من خلالها التجربة علي النحو الذي تريده حتي لو كان غريباً بعض الشئ، حيث يلعب “ترير” بأدواته في المونتاج المرئي ويجمل فيلمه بمشهدين أحدهما رمزي تماماً يمثل تحولاً لعله يكون لحظة إعلان “يوليا” تملكها الشئ الذي يبقيها شاعرة بسلامٍ نفسي وخارجي مع الحياة دور تعثرٍ في اختيارٍ جديد كما جرت العادة.
ربما سيكون من الصعب حدوث ذلك، ولكن ربما تستحق الممثلة الشابة “رينات رينسيف” لاوسكار أفضل ممثلة في دور رئيسي عن دورها هنا التي يجب توجيه الشكر ل”ترير” علي ذلك الاختيار الذكي لنجمة شابة نجحت في ان تقدم أداءاً جيداً بلا أدني مبالغات في الجاي الانفعالي، وحيوية في الحركة والحوار تعكس تعايش تام مع الشخصية ويبدو من خلالها كأن “رينسيف” هي “جولي” بالفعل بكل جمالها ورقتها وارتباكها النابع من سريرتها الحائرة في تحديد رغباتها.
في الختام، يجب القول أن بنهاية عام ٢٠٢١ كنا علي عدة مواعيد مع عدة ابداعات سينمائية أوروبية بمثابة القمة والتميز في رصد الواقع بعيونٍ تري مفرداته بوضوح وتنجح في ارثاءه بأساليب درامية رفيعة الجودة والمستوي.