رؤية أخرى لفيلم the Passion of Joan of Arc للمخرج الفرنسي “كارل ثيودور درير” ومسرحية ” القديسة جون ” للكاتب الأيرلندي “برنارد شو”
الثورة على الظلم” لطالما كانت هذه الفكرة مصدر إعجاب لكثيرين؛ فوجدنا الكثير من الثوار والمناضلين في كل الأزمان والأماكن؛ منهم من عرفنا ومنهم من لن نعرفه أبدًا، وجدنا الثوار في مصر وليبيا والجزائر والعراق وسوريا والأرجنتين والشيشان والبوسنة والهند؛ وجدناهم في كل بقاع الدنيا من أقصاها إلى أقصاها .. ولكن لماذا “جان دارك” أو “عذراء أورليان” كما يطلق عليها ؟
يومًا ما قالها الشاعر الكبير أبو تمام “والسيف أصدق انباء من الكتب … في حده الحد بين الجد واللعب”.
–فيقف أمامنا الآن السيف متمثلاً في الفيلم الفرنسي العظيم “آلام جان دارك” وهو من إنتاج سنة 1928 وهل هو فعلا أصدق من الكتب والمتمثل في مسرحية الكاتب الأيرلندي الشهير” جورج برنارد شو ” القديسة جون” بتاريخ 1923، ونلاحظ أن كلا العملين خرجا للنور بعد أن أعلنت الكنيسة الكاثوليكية ب روما سنة 1920 عن تكريس جان دارك كقديسة.. كلاهما الآن أمامنا واقفان ينتظران حكمنا فيهما؛ أيهما على حق !
قبل أن نتسرع ونرجح حكم عاطفتنا أو حكم عقولنا، أليس ذلك من العدل أن نقرأ القصة على جميع وجوهها أولاً لعل ذلك يعطي لنا مؤشرَا عمن هو ظالم ومن هو مظلوم ..
-دعونا في البداية نتعرف على الخلفية التاريخية بشكل مقتضب لظروف نشأة هذه الفتاة التي ذاعت شهرتها الآفاق فيما بعد، فقد ولدت “جان دارك ” لعائلة من الفلاحين خلال حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا والتي عانت فيها فرنسا الأمرين من الاحتلال البريطاني والعديد من المعارك على أرضها وتنفيذ البريطانيين لسياسة الأرض المحروقة مما عصف بالاقتصاد الفرنسي؛ وفي الوقت ذاته كانت فرنسا تعاني من انتشار الموت الأسود “الطاعون” في ظروف بالغة القتامة والسوداوية نشأت بطلتنا ..
–يروي لنا ” برنارد شو ” قصة “جان دارك ” في مسرحية قصيرة ملامح من حياتها إلى أن سيقت للموت، فها هي المرأة التي ترأس الرجال المقاتلين وتتحدث لرجال الدين في وقت لم تكن المرأة فيه شيئًا مذكورًا في أوروبا، كانت “جان دارك” فارسة مقاتلة ترتدي ملابس الرجال أثناء حياتها؛ هي إمرأة تخلت عن أنوثتها واعتنقت فكرًا ذكوريًا ثوريًا وقتذاك لتحرر بلادها فرنسا من الاحتلال البريطاني؛ وتذيق الإنجليز الهزيمة وتتتابع انتصاراتها حتى انتهت بتتويج الملك شارل على العرش الفرنسي.
-كان لابد للإنجليز من الإيقاع بها وتخلى عنها الفرنسيون حقدًا وغيرة منها، فقدمت للمحاكمة العادلة؛ ولكن أكانت حقًا محاكمة عادلة؟ هذه التي كانت فرنسية الاسم بريطانية الهوية كنسية المظهر والتي لا يعلم جوهرها إلا الله، هل كانت حقًا محاكمة لكونها مهرطقة: (زنديقة “أي من يدخل معتقدات جديدة لا تتفق مع المبادئ الأساسية للدين”.) كالساحرات أم لكونها ثائرة، وهي من ادعت مرارًا أنها تتلقى أوامر الرب وتسمع صوته وتنفذ أوامره !!!
-أراد برنارد شو ذو التفكير اليساري المتحرر تصوير بطلتنا خارج الإطار الرومانسي التقليدي الذي تعمد أغلب من كتب عنها وضعها خلاله، أراد أن يضع أمامنا شيئًا مما ادعت بطلتنا بإضفاء قدسية على أفكارها وكأنها رسول السماء وأفكارها إلهية لا تقبل النقاش، أرادنا أن ننتزع من قلوبنا التعاطف الأعمى إزاءها ونحكم عقولنا فيما تقول، وفي الوقت نفسه لم يستطع شو أن يجرد نفسه كلية من التعاطف معاها فهو الآخر يعتبرها بريئة في أفكارها عفوية في تصرفاتها، هو فقط أراد إلقاء الضوء على الوجه الآخر للحقيقة في تراجيديا خالية من الأشرار كما توصف مسرحيته دومًا، فهل من الصواب أن تقف المحكمة صامتة إزاء ادعاءاتها أنها ابنة الرب أم أن المحكمة لها ألف عذر في حكمها؟
-شرح “برنارد شو” كل هذه الأفكار والأحداث في ستة مشاهد قصيرة وانتهت بمشهد مؤلم أشد الإيلام؛ مشهد محاكمة “جون أوف أرك”.
-حسنًا هل انتهيت أيها الكتاب من سرد ما لديك … هنا يسرع السيف أو بالأحرى الفيلم الفرنسي ليقف أمام استرسال مسرحية برنارد شو؛ فهو أيضًا لديه ما يقول ولكن بصوت أعلى، أسرع الفيلم ليلقي الضوء على هذا المشهد بالتحديد دون غيره؛ على آلام جون وقسوة البشر وهنا يؤكد أنه ليس مجرد محاكمة لامرأة ثائرة كانت أم مهرطقة بل محاكمة الفتاة الريفية البسيطة المتدينة وتنفيذ عقوبة حرقها حية، فلا نحتاج لتعبيرات كي نشعر بالمعاناة، كي نشعر بتجرد البشر من إنسانيتهم، كي نعي القسوة والانتقام الجنوني اللإنساني، كيف يمارسون ألاعيبهم إزاء فتاة في التاسعة عشر من عمرها.
-يقرع المخرج ” كارل ثيودور درير” بكل قوة أبواب عاطفتنا حتى ننحي عقولنا تمامًا إزاء ما تتعرض له من قسوة، وكيف أنها واجهت وحدها عددًا ممن يظنون أنفسهم متدينين يحاكمونها بتهمة الهرطقة بظنها أنها تحمل تعاليم السماء، حتى أنها تتذكر آلام المسيح؛ كيف سالت دموعها خوفًا؛ كيف أجبروها لتعترف على ما لم تقله؛ كيف اجتمع عليها هؤلاء القوم الذين نصبوا أنفسهم مدافعين عن الكنيسة بينما يفعلون كل الألاعيب ليوقعوا بها،كيف استبدت بهم الغيرة والحسد لذياع شهرتها بينما هم تواروا في الظل،كيف لم تهزهم دموع فتاة بسيطة لم تعد تقوى على المقاومة؛ هذه الفتاة التي لم تنل قسطًا من أي تعليم استسلمت للحرق في مشهد يقطع الأنفاس ويمزق القلوب ويسيل الدموع، هي تعلم أنها بريئة الأفكار حتى ولو ضلت عنها الكلمات، وهم يعلمون أنها بريئة ولكن قيمتها ملأت قلوبهم حقدًا وحسدًا، وجموع الشعب ممن رأوا مشهد حرقها رأي العين يعلمون أنها بريئة؛ ولكنهم لم ينتفضوا من أجلها إلا بعد ما أصبحت هي والرماد سواء.
-عبر المخرج عن كل هذه المشاعر المؤلمة لمدة ساعة ونصف في فيلم صامت؛ نعم صامت، فلا نحتاج لحروف ولا لكلمات؛ فما نراه تخطى كل الحواجز التي اخترعها البشر ليصل إلى نتيجة حتمية؛ التعاطف التام معها أيًا كان ما تقول، فكيف لا نتعاطف وها هي المرأة الضعيفة تساعد جلادها وهو يقيد معصميها، وتستسلم للموت حرقًا في صمت مؤلم أبلغ من الكلم يقطعه دموع الحاضرين الذين شهدوا مقتلها.
-هنا يقفز أحد المشاهد لمسرحية ” برنارد شو ” أمامنا لا لينفي هذا العذاب بل ليتفق مع الفيلم في بشاعة ما حدث لها؛ فأورد على لسانها:
“إنكم لن ترهبوني بإبلاغي أنني وحيدة بلا رفقاء .. فها هي ففرنسا تقف وحيدة .. والله سبحانه واحد أحد .. ووحدانيته هذي هي سر قوته”.
-بهذه الكلمات عبرت جان دارك عن مشاعرها إزاء من أظهروا لها الولاء في حياتها وأداروا لها ظهورهم بعد أن قدمت للمحاكمة، أية تهمة هذه التي تودي بصاحبها لتعذيب سادي بشع؛ تهمة ظاهرها الهرطقة وباطنها قمع الفكر الثوري.
هذه هي يا سادة الحقيقة على جميع وجوهها ولكم أن تختاروا إلى أي جانب تميلون .
بقلم : مروة يوسف