اعاد روبرت إيجرز إحياء أفلام الرعب النفسي بشكل مغاير عما كانت عليه سابقا مقدما إياها بشكل مختلف بالكامل لعناصر الفيلم بلا إستثناء، ويضفي عليها حالة من الغرابة التي تنبع من ماهية المحتوي المقدم بسيناريو غير تقليدي لخدمة الرؤية التي يصدر عنها جودة بصرية دسمة مزجا مع العنصر الصوتي الذي يصل بحاسة السمع إلي النفور، وإضافة لذلك مزج الفلكلور الشعبي من مختلف الثقافات بين سطور السيناريو وإحياء بعض الأساطير كذلك، ليواصل بعد محاولة إيجرز الجريئة بفيلمه “ The Witch 2015 “، أكثر من مخرج واللذين قدموا بدورهم إضافة لتلك الفئة من العروض أمثال ” جوردان بيل و آري آستر ” حيث اخذ الأول التفرقة بين لون البشرة محور لمشروعه وقدم “ Get out ” و ” Us ” ، أما الثاني فكان متأثر بالكامل بالفلكلور الشعبي والهلاوس فقدم ” Hereditary ” و ” MidSommar “، ليعود إيجرز مجددا ليثبت أن البادئ له الأفضلية دائما مقدما لنا فيلم لا يوصف سوي بالإبداع بكافة عناصره والذي اعتبره أحد أفضل أفلام فئته التي شاهدتها وأحد أفضل أفلام العام بلا شك.
يقدم إيجرز ثنائية من أساطير الإغريق “بروتياس” والذي يتسم بمعرفته المهولة وتفضيل الحفاظ عليها من تلقين الغير بها كما أنه قادر علي تسخير الكائنات البحرية، و ” روميثيس” أحد حكماء التايتن والذي بدوره يتسم بسعيه المميت نحو المعرفة وبين هذا وذاك كانت هناك رمزية أخري لغضب الآلهة والتي تكمن في طائر النورس الذي وضع في بوستر الفيلم هو الأخر، ومن هنا فالمحتوي تم إختياره بدقة فائقة فلم يكن الأمر مجرد إطلاع ليخرج لنا أساطير بصريا بتلك الجودة، بل كانت دراسة متقنة عن رغبة في صنع شئ لا يشبه ما قدم من قبل وقد كان له ما سعي شغوفا إليه.
عرض الفيلم بصريا بتقنية الأبيض والأسود لمحاكاة الأساطير بشكل واقعي أكثر دقة ولغرض بصري لوضع المشاهد تماما موضع شخصياته وعن قرب من كائناته بدون فواصل تذكر بلون يفصلنا ذهنيا عما تم التحضير إليه، وعلي المستوي السمعي لم يترك لنا فجوة تبعدنا عن المحتوي البصري ، حيث إستخدام أكثر من مقطوعة بشكل دوري علي مدار مدة العرض مثل الصوت الذي يصدر من المنارة علي فترات وصوت النورس وغيرها من الأصوات والتي تعمل علي وضعك في موضع الدهشة والقلق وإنتظار كل ما هو قادم، واكمالا لمشروع إيجرز الطموح فعليك كمشاهد أن تتوقع أي شئ وبأي طريقة.
توغل إيجرز في عالم الأساطير واستخدم كل شئ ممكن استخدامه لتجسيد تلك الحالة وعرض إحداثيتها وقد فعل ذلك بكل إبداع ليقدم لنا في المجمل أكثر من رسالة ومن البديع أنه لم يميل لأي منهم ، المعرفة وما تلقي به من متاعب علي حامليها ، وماهية الساعي إليها والمغريات التي تقطع الطريق والصعاب التي نضعها لأنفسنا بسذاجة، السعي غوصا في المجهول سعيا لمحوه ونتاج الرحلة وما تحويه من فصول ، ومن هنا فالثناء علي سيناريو الفيلم واجب لا محالة حيث أن إيجرز لم يقع في الخطأ الشائع بتلك الأفلام حيث التركيز التام مع العنصر البصري والصوتي لخلق حالة مثيرة دون التطرق للإستقبال الذهني للمتلقي، راعي إيجرز ذلك بسيناريو متقن لأبعد الحدود وتصاعدي منذ أن فتحت الشاشة إلي أن طفأت.
نضج روبرت إيجرز منذ فيلمه السابق أكثر مما نضج سكورسيزي في الأيرلندي عن سابقيه من أفلام العصابات، خلق حالة من الوهم ومزجها بالواقعية بسوداوية مطلقة بسرد سلس وساخر في بعض الأحيان ثم وبتصاعد تنفجر أحداثه التي تنفجر بدورها منذ البداية علي فترات، فلم يكن الحفاظ علي حالة المشاهد طوال مدة العرض بالشئ الهين ولم يكن من السهل أبدا إخراج عمل بتلك الأجواء، مقارنة بسيناريو روبرت إيجرز السابق في ” الساحرة ” فقد حقق روبرت ما كان يمكن أن يتم تقديمه حيث دسامة السيناريو وعدم التسرع في إنهاء فيلمه وان كان لا يؤخذ عليه ذلك سابقا فكانت التجربة محفوفة بالمخاطر كونها تجربة مختلفة بالكامل، أما علي المستوي البصري وتكوين الصورة فمن الواضح أننا أمام رجل سيرسم الكثير فيما بعد ونتمني أن يستمر، أما عن إحدي سمات إيجرز التي اعشقها علي المستوي الشخصي وهي تفريغ شخصياته، إيجرز يخرج من شخصياته كل ما يمتلكوا من قدرة ومن الصعب أن يقدم ممثل دور بجودة الدور الذي قدمه مع إيجرز وهذا من رأيي البسيط ليس إلا.
وبالحديث عن الشخصيات فنحن أمام ثنائي مرشح للأوسكار مقدما بعيدا عن الميول التي يتم بناء عليها الإختيار ،دافو ممثل رائع ويقدم الكثير في كل مناسبة ولكن ما قدمه هذه المرة فلن تجد أحد قادر علي مجاراته غير واكين وبانديراس؟ لا أري غيرهم متوج بالذهب، أما عن باتينسون الذي فاجئني بالأداء الأكثر من رائع فلا أحد قد يعيقه غير آل باتشينو والذي ستكون حظوظه أكبر كونه قدم شخصية تاريخية إضافة لأداء الجميل جدا وبعيد عن الأثنين فالأحق بالدور المساعد إلي الأن في رأيي هو شون بين الذي ربما سيكون خارج الترشيحات لبعد فيلمه ” The Professor and the Madman ” نسبيا عن موسم الجوائز.
و من موضعي هذا وفي السنة التي عرض فيه أكثر من عشرة أفلام استطيع وصفهم بالتحف لم يعرض فيلما تقنيا بجودة المنارة رغم أن الفيلم قدم بالأبيض والأسود، وكان للمونتاج الكلمة الأكبر تقنيا فكان من الضروري الثناء عليه حيث لا يقترب مونتاج فيلم شاهدته في العام إلي الأن من جودته سوي الأيرلندي والذي سيشارك بديهيا في أكثر من ترشيح فمن الممكن أن تذهب هذه الجائزة لفيلم إيجرز، ويذكر أيضا أن السنة قد عرض فيها فيلمين من نفس الفئة.
وأخيراً وبعد مشاهدة معظم أفلام العام وبعد إنتظار سأعتبر هذا الفيلم ثاني أفضل فيلم في العام بعد البؤساء والذي من الواضح أنه سيستمر لنهاية العام كما استمر شجرة الكمثرى البرية في العام الماضي، وهذا تفضيلي الشخصي ليس إلا.