من يتعرض لمسيرة مخرج فيلم The Fabelmans الكبير “ستيفن سبليبرج” سيجد أنه لم يترك نوعاً من الأفلام إلا وقد ترك بصمته به متحلياً بالوعي التام عن هوية وملامح العالم الذي يرسم بداخله إبداعه الفني، فتكون النتيجة النهائية مذهلة في كافة عناصرها السينمائية وتتسبب في علو شأن “سبيلبرج” في الوسط الفني كواحدٍ من أعمدة “هوليوود” التي لا يدري البعض ماذا ستصير إليه الصناعة حينما يتوقف هذا الرجل عن صناعة الأفلام.
“سبيلبرج” الذي عَرف نفسه للجمهور سينمائياً علي أنه من مبدعي الخيال العلمي بحرب العوالم والمخلوقات التي تأتي من الفضاء والظواهر الغريبة والفك المفترس، والمؤرخ الذي يعود بالزمن ويسرد الوقائع الهامة التي تضيف للدراما السينمائية كنوزاً فنية عظيمة، والشاعري علي طرقات “نيويورك سيتي” يمرق سارداً قصة حب تدور وسط صراعٍ علي سلطة الشارع وسيادته.
شغفٌ كبير لم يأتي من فراغ أو من مجرد دراسةٍ لمفاهيم السينما كي تكون مهنة كسب الرزق والعيش فحسب، هناك بكل تأكيد دافعٍ ما في حياة “سبلبيرج” جعلته بالسينما متيم، في الصورةٍ فنانٌ إبداعي وفي الصوت يحكي حكايةٍ من منظورٍ معين، في المؤثرات واقعي ويجنح للخيال ورسم المكان بدقة، وفي الأجواء العامة ملحمي ورومانسي ودرامي وكل ما قد يخطر علي بال العاشق لسينما ذلك المخضرم الأيقوني.
لهذا يأتي فيلم The Fabelmans كباكورة أعمال “ستيفن سبلبيرج” الذي يحكي من خلاله كيف بدأ كل شئ، والمراحل الزمنية والمكانية والإجتماعية التي أثرت بشكلٍ كبير علي شخصيته ونظرته الفنية التي لم تكن وليدة المصادفة أو ناضجة بعد مرور كثيرٍ من الوقت وليس منذ الوهلة الأولي، ميلودراما مفعمة بالطموح والسعي والشجن والعاطفة ، وواقعية قد تلمس خصصياً المراهقين المتعطشين دوماً لتكوين شخصياتهم الخاصة كحال البطل الذي ترعرع ووصل لما هو عليه بفضل ذلك الإرتباط الوطيد بالسينما.
قصة فيلم The Fabelmans
تدور أحداث فيلم The Fabelmans عن “سام فيبلمان” الشاب الذي يتعلق بالسينما والأفلام منذ أن كان صغيراً، ومن خلال الأحداث نتتبع “سام” وهو يحاول أن ينمي موهبته الفنية وتأثير حياته الأسرية والخارجية علي رحلته التي يسعي من خلالها أن يصنع العديد من الأفلام الخاصة به.
مراجعة فيلم The Fabelmans
يتناول سيناريو فيلم The Fabelmans قصة “سام فيبلمان” منذ طفولته مروراً بمرحلة المراهقة ووصولاً للنهاية التي حددت مصير “سام” المستقبلي بعد أشواطٍ طويلة من العمل كهاوي يصنع أفلاماً، والمرحلة الوسطي علي وجه التحديد تم منحها الوقت الكافي من زمن الفيلم وذلك منطقيٌ بالفعل لأنها تشكل أساس دوافع “سام” لكي يكمل حلمه وسعيه.
ولكن تكمن سلبية الفيلم الوحيدة في أنه كان من الأفضل تخصيص المزيد من الوقت لمرحلة الطفولة وخصوصاً حينما قدم “سبلبيرج” مشهداً إفتتاحياً ولا أروع بلقطة “Close Up” معبرة للغاية عن بداية تعلق “سام” بالسينما وبما يشاهده من صور حركية، لأن “سام” حتي وهو صغير كان يحاول أن يفعل الشئ الذي يفوق سنه وإمكانياته مع وجود الدعم الكافي المتمثل في عائلته، ولكن نجد تنقلاً غير مريح لمرحلة المراهقة يكتفي ببضعة دقائق نتعرف من خلالها علي كيفية إستمرارية “سام” وهو صغير في هوايته حتي كبر وكبر معه وعيه ببعض الأساسيات لعمل أفلامٍ بمجهواته الذاتية.
علي النقيض، لم تؤثر التدخلات الدرامية المخصصة للشخصيات المساندة علي الهدف الأساسي للقصة، والتي تتعلق بشؤون عائلة “فابلمنز” كعلاقة الأب بالأم، وظهور صديق الأب في الصورة، بل هي أمور نراها علي الشاشة مستطردة وواضحة بتسلسلات أحداثٍ ليست مطولة تنعكس علي شخصية “سام” في تصرفاته وقرارته وطريقه نحوه هدفه، بكل بساطة يمكن القول أنه لا يوجد أية قرار إتخذه “سبلبيرج” علي مستوي السيناريو قد يسهل من خلاله الإحساس بأمورٍ فرعية لا حاجة للفيلم بها أو زائدة علي الوقت الزمني المقدر بساعتين ونصف.
إخراجياً، كان هناك تأثيرٌ ملحوظ لذكريات “سبلبيرج” علي عناصرٍ كثيرة من الفيلم، مثل تصميم الشخصيات الذي يشبه عائلة “سبلبيرج” في الحقيقة وخصوصاً من ناحية الهيئة والشكل، كذلك الأمر بالنسبة لتصميم الإنتاج والديكورات التي تتناسب فعلياً مع الفترة التي تدور خلالها الأحداث وبالتحديد في بداية الخمسينات.
الأهم من ذلك و يعد إنجاز “سبلبيرج” الأكبر هي طغيان الأيقونية علي الكثير من المشاهد التي تعظم من شأن السينما حتي ولو كانت في صورة أعمال مصغرة كتلك التي يبتدعها “سام” ، وأخري تتعلق بالعائلة والتوتر التي يطرأ علي أفرادها في أونة كثيرة، لذا من المتوقع نيل “سبلبيرج” جائزة الأوسكار لأفضل إخراج هذا العام عن جدارة وهي ليست فقط تتويجاً لما قدمه بالفيلم، بل هي جائزة تمنح لأجل تقدير السينما بهذا المقدار من الحب، وعلي الجماليات التي لا يخلو منها أية عمل يحمل إسم “سبلبيرج” علي مدار مسيرته، وتتواجد في هذا الفيلم بكثرة.
جميع النجوم المشاركين في الفيلم كانوا علي قدرٍ كبير من التألق علي مستوي التمثيل، ولكن يجب الإشادة بالموهبة الجديدة “جابريل لابيل” في دور “سام” الذي ينعكس من خلال أداءه مدي شغف “سام” بالسينما وتأثير الظروف العائلية والتغيرات التي تحدث من حوله علي طبيعته ومشاعره بصورةٍ كبيرة، كذلك الأمر بالنسبة ل”بول دانو” في دور “الأب” الذي يقدم صورةً واقعية للأب العملي الذي يحاول إيجاد الوظيفة المناسبة من أجل الإستقرار والعيش بشكل طبيعي كسائر البشر.
و”ميشيل ويليامز” التي ستنافس فعلياً “كيت بلانشيت” هذا العام علي جائزة أفضل ممثلة نظير ذلك الفيضان من المشاعر والعاطفة وتجسيد مراحل إنكسار الشخصية في آونة والفرح والسعادة في آونة أخري والتمكن من إبراز التغيير الفكري والنفسي والمعنوي الذي تتأثر به الشخصية وتؤثر به كذلك علي الأخرين وخصوصاً “سام” الذي مر بمرحلة عصيبة من حياته نتيجة هذه الظروف والتقلبات.
تقييم فيلم The Fabelmans
في الختام، يستحق فيلم The Fabelmans أن يشار إليه أنه العمل الذي سينال الأوسكار لأفضل أفلام السنة قبل موسم الجوائز بفترة طويلة، لأن الفيلم هو تحية للسينما ولكل من يعشق الفن السابع عاملاً به أو من الجمهور، ودراما إنسانية في نفس الوقت غزيرة المشاعر ومتقنة في كافة عناصرها الفنية والإخراجية.