بين كل الإصدارات التي قدمت سينمائياً لشخصية “باتمان” الشهيرة في عالم “دي سي كوميكس” منذ التسعينات وحتي الآن ، يمكن تصنيف فيلم The Batman الجديد للمخرج والمؤلف “مات رييفز” علي أنه التناول الأكثر مثالية للرجل الوطواط الذي يقارب بدرجاتٍ كبيرة أهم ما جاء في القصص المصورة عن الشخصية والصفات التي تتحلي بها ، وهي شخصية المحقق أو “Detective” الذي من خلالها يواجه “بروس واين” خلف قناع الوطواط لغزاً محيراً يتعين عليه فك رموزه ومعرفة مسبباته ودوافع مرتكبها.
كل ذلك ينبع من تعدد تصورات عديد صناع الأفلام للشخصية مثل “كريستوفر نولان” الذي وضع تحدياتٍ صعبة ضد الشخصية في ثلاثيته “Dark Knight- فارس الظلام” علي نطاقاتٍ واسعة المجال و بخطورة أكبر تحت شعار الجريمة المنظمة، و “زاك سنايدر” الذي بالرغم من تفوق “بين أفليك” في الأداء التمثيلي كانت أقل نسخ “باتمان” لمعاناً نتيجة ترسيخ جوانب كوميدية وغير معهودة عنها كليتاً، وكذلك “تيم برتون” الذي أبتعد هو الأخر بفلسفته الخاصة عن الكوميكس وقدم نسخة مغايرة من باتمان” تتحلي بعديد الصفات المختلفة عن ما يعرفه البعض عن الشخصية.
جميع افلام باتمان مرتبة من الأقدم للأحدث
هنا في فيلم The Batman الأمر يختلف تماماً ودون التقليل بالطبع مما قدم سابقاً ، لأنه أخلص بالفعل للجوانب المتأصلة في شخصية “باتمان” التي علي مدار عديد الإصدارات القصصية كانت تحظئ بإهتمام العديد من الأنصار، وتضفي نكهةً من الحماس والتشويق المستمر الملئ أيضاً بالجدية والظلامية والأهم من ذلك توالي الصدمات والمفاجآت التي يرتفع نسقها حدثاً تلو الآخر ، تجربة سينمائية يجب علي إثرها توجيه التحية لإستوديهات “وارنر بروس” علي إستثمارها في فيلم The Batman و مصفوفة الأفكار العظيمة تلك التي قدمها “مات رييفز” وأحسن تكوينها سينمائياً بكل ما أتيح له من أدوات و دعمٍ كامل لهذا المشروع.
قصة فيلم The Batman
تدور أحداث فيلم The Batman في السنة الثانية من محاربة “باتمان” للجريمة، حينما يواجه أحد المجرمين الساديين و يدعي “ذا ريدلر” الذي يشرع في إرتكاب عديد الجرائم تاركاً خلفه أحجياتٍ وألغاز معقدة يتوجب علي “باتمان” حل طلاسمها من أجل الوصول لحقيقة الأمور والتصدي ل”ذا ريدلر” ومعرفة نواياه ودوافعه الغامضة.
مراجعة فيلم The Batman
ما فعله “مات رييفز” في سيناريو فيلم The Batman هو الموزانة بين أصل “باتمان” و النوعية السينمائية المناسبة لها، بمعني أن “رييفز” قد لجأ لأسلوب “فيلم نوار…Film Noir” الكلاسيكي كشكلية ترتكز عليها الأحداث وتخرج في إطار الجريمة والغموض، وكما ذكرنا عديد المرات أن الفيلم نوار هو مصطلح قديم كان يطلق علي أفلام “هوليوود” فترة الأربعينيات والخمسينيات، وتتسم بالظلامية في الأجواء ودرجات الألوان وعناصر القصة المنتمية لرمزيات الجريمة والخطيئة والإنتقام وغيرهم.
تجلي ذلك بطريقة مثالية وبتصاعد دقيق وملحوظ في الأحداث المتصلة ببعضها البعض علي هيئة ألغاز محيرة وتحدياتٍ عصيبة تواجه “باتمان” الذي يطلق العنان لمخيلته كمحقق يحاول إيجاد السبيل لمعرفة مسببات ما يحدث من قتل وأكاذيب تروي وصدمات تتوالي بمرورٍ مدوي ومفاجئ، والجميل في الأمر أيضاً أن أحداث فيلم The Batman لا تقف عند هذا الحد، فنجد في الفصول الأخيرة من الفيلم تحولاتٍ كبري سواءاً في السياق نفسه أو في شخصية “باتمان” التي لا يشغلها سوي هدفٍ من أجل تلبية حاجة نفسيته المشبعة برغبات الإنتقام.
المميز في نهاية فيلم The Batman أيضاً هي أنها ليست بالتقليدية أو النهاية المنتظرة التي تختم الأحداث بطريقة معتادة، بل إنها ناتجة عن معطياتٍ تم ترسيخها من قبل “مات رييفز” ببراعة داخل القصة وتفتح مجالاً لما هو قادم وما سيكون أحجياتٍ جديدة يتحتم علي “باتمان” أن يشرع في البحث عن حلولٍ لها في ظل المكانة التي سيتمتع بها والتغير الكبير الذي طرأ عليه، ويأتي كل ما سبق إلي جانب الإستغلال المثالي لعديد شخصيات عالم “باتمان” الشهيرة علي النحو الذي يبرز أهميتها شخصياً وأهميتها داخل الفيلم.
تميز “مات رييفز” السردي والقصصي يواجهه عقلية إخراجية تعي تماماً كيفية صنع عملٍ سينمائي يتبع فئة الجريمة والإثارة لكن ينتمي في الوقت ذاته إلي عالم الأبطال الخارقين، فنجد إنعكاساتٍ واضحة للظلامية والأجواء القاتمة للأحداث من خلال درجات الألوان و لقطات الكاميرا القريبة و الواسعة التي تسلط بؤرتها كاملة علي الشخصيات وتعكس ملامح وجههم المكتظ بالمشاعر الجادة والصرامة في الوقت ذاته.
بالإضافة إلي تصميمات زي وعربة “باتمان” البدائية بعض الشئ والمتعمد تقديمها كذلك كي يتناسب الفترة الزمنية التي يحارب من خلالها “باتمان” الجريمة ، و كذلك الإستخدام المحدود للمؤثرات البصرية من أجل تحري واقعية أكبر في تصميم المشاهد، فبلا شك أن “مات رريفز” ينجح في ترسيخ إسمه عملاً تلو الأخر كواحدٍ من أكثر صناع السينما الذي حينما يكون شغوف بفكرةٍ معينة يقوم بأدائها علي أكمل وجه.
أخيراً قد حان الوقت الذي يمكن أن يقال فيه : (لم يعد روبرتن باتينسون فتي Twilight نهائياً) بعدما قدم أداءاً رفيع المستوي لشخصية “باتمان” ، وتمكن من تقمص هوية الوطواط المحطمة والمنكسرة بفعل تأثيرات الماضي والآلام الفقدان وغياب الحقيقة المنتظرة التي تطفئ النيرات المستعرة بكينونته، “باتينسون” الذي أجاد أيضاً إرتجال كافة التعبيرات الوجهية و أبرز بتجسيده رمزية الإنتقام التي قيلت علي لسانه مباشرةً وأثرت بدورها عليه علي نحوٍ يجعله ظلالاً للخوف وحاملاً لراية البحث عن وقائع الأمور المريبة التي تحدث بتوالي الوقت و عملية الخطط الشريرة والمآسي التي تترتب عليها، فهو بالفعل الإختيار الموفق لشخصية “باتمان” و العصب الأساسي للفيلم الذي قاده نحو النجاح النقدي والجماهيري المستحق بلا أدني شك.
أيضاً يتفوق في التمثيل بقية فريق العمل المتمثل في “زوي كرافتز” التي قدمت شخصية “سلينا كايل…كاتوومان” بإجتهاد كبير خصوصاً في اللحظات التي تتشارك فيها مع “روبرت باتينسون”، و “بول دانو” صاحب الملامح المخيفة وطريقة الإلقاء الحواري المثيرة للقلق التي تتنسب فعليا مع تصور “مات رييفز” لشخصية “ذا ريدلر”، و”كولين فاريل” الذي لم يعيقه المكياج المكثف لشخصية “البطريق” في إبراز الحس الجنوني للشخصية داخل الأحداث، و أخيراً “جيفري رايت” في دور “جيم جوردون” الذي كون هو الأخر ثنائية قوية مع “روبرت باتينسون” علي مدار فتراتٍ كثيرة بالفيلم.
في الختام ، إن قُدر لقصة فيلم The Batman التوسع لاحقاً في أجزاءٍ آخر وتكوين عالم سينمائية يخص شخصية “باتمان” فقط، فمن الأفضل أن يكون التركيز فقط علي تقديم المزيد من القصص والشخصيات والأحداث من وحي عالم “باتمان” لا أن يتم ربطه بأعمالٍ أخري فرعية، كي لا تقل هذه المكانة الكبيرة التي سيتمتع بها عمل “مات رييفز” الإستنثنائي عند محبي “باتمان”، ويزداد الحماس والترقب أكثر فأكثر لما هو قادم في المستقبل.