مراجعات

مراجعة فيلم Rashomon .. سقوط بوابة راشمون وانهيار الحضارة اليابانية

مراجعة فيلم Rashomon

تحذير: هناك حرق للأحداث

كلنا ضحايا في رواياتنا جناة في روايات الغير .. الحقيقة انه لا يوجد الحقيقة .. الحقيقة هي خدعة اخترعها الإنسان ليهرب من روحه المعذبة .. ليقنع نفسه بأنه ضحية مجتمع شيطاني ..

بأنه لا مكان لروحه الملائكية في هذا العالم الذي هجرته الألهة .. حادثة مقتل ساموراي وإغتصاب زوجته علي يد قاطع طريق تُروي من منظور 4 شخصيات (قاطع الطريق، الزوجة، الساموراي بعد استحضار روحه عن طريق وسيط، وشاهد عيان) .. يضعك أكيرا بكاميرته في منصب القاضي وأنت عليك إدراك الحقيقة من ثنايا الأربع روايات المختلفة والتي ستكون أيضاً مناسبة لاهوائك مما يحقق هدف أكيرا لو ستنتجتها من الأساس ..

تظن مع كل رواية أن الألغاز ستتفكك والغموض سينحل وتصبح الأمور أسهل ولكن يحدث النقيض تماماً .. عندما تختلط الحقيقة بالأهواء تجد نفسك تائهاً .. من الصادق ومن الكاذب؟ .. من الجاني ومن الضحية؟ .. من الملاك ومن الشيطان؟ ..

بأي أداة قُتل بالسيف أم بالخنجر؟ .. روايات متناقضة مقنعة كل علي حدة بشكل ما يتخللها بعض الثغرات التي لن تشفي نفسك التواقة للحقيقة تشترك جميعا في شيء واحد ثابت وحقيقي .. مقتل الساموراي وإغتصاب زوجته.

Toshirô Mifune and Masayuki Mori in Rashômon (1950)

في الشهادة الأولي لقاطع الطريق يعترف بقتله للساموراي ولكنه يقول بأن هذا لم يكن في نيته علي الإطلاق .. كان يرغب في زوجته فقط .. حتي أنه لجأ إلي حيلة ليبعده عن زوجته وينفرد بها دون قتله .. حيث أخبره بأنه يمتلك سيوف جيدة مدفونة سيبيعها له بسعر زهيد .. فيصطحبه إلي هناك ويغافله ويقوم بربطه ثم يعود إلي المرأة .. ينسحر بجمالها فيأخذها إلي زوجها المربوط حتي يقل من نظرها ويتباهي بقوته .. يحاول إغتصابها ولكنها تتصدي له بشراسة بوساطة خنجرها .. وعندما يمسك يدها ويحتضنها تستسلم له ولرجولته ولرغباتها الشهوانية .. بعدما حصل عليها وهم بالرحيل أوقفته المرأة وأخبرته بأن يجب علي واحد منهما أن يموت هو أو زوجها لآن معرفتها رجلين أسوأ من الموت وستذهب مع الناجي .. وبالفعل يفك قاطع الطريق وثاق الساموري ويقاتله قتالاً نزيهاً وبطولياً تشابكا فيه 23 مرة بالمرة بالسيف قبل أن يطرحه أرضاً ويقتله .. بعد انتهاء القتال اتجه قاطع الطريق إليها ليجدها هربت .. مشكلتي مع هذه الرواية شيئين .. 1- الطابع البطولي واللمسة المسرحية التي يضفيها الرواي (قاطع الطريق) علي روايته حتي يفتخر بالحصول علي زوجة الساموراي بعد أن قاومته بشدة وهو ما لا يبدو عليها، واستسلامها له بعد أن أمسك يدها وأحتضنها وقبلها، وقتله لزوجها بعد نزال بطولي تشابكا فيه 23 مرة بالسيف وهو ما لن يظهر في الثلاث روايات المتبقية 2- عدم اقتناعي بمقاومة زوجة الساموراي الشديدة لقاطع الطريق لا ينبع فقط من مظهرها الضعيف بل أيضاً كان في متناولها أن تفك وثاق زوجها .. في الرواية الرابعة لشاهد العيان قال بأنه رأي قاطع الطريق يتوسل إلي المرأة بعد أن أغتصبها من أجل أن تتزوجه وكذلك القتال بين الرجلين لم يكن بطولياً بل كانا خائفين للغاية مما يثبت أن الشهادة الأولي من الممكن أن تكون الحقيقة ولكن قاطع الطريق أضاف عليها بعض التعديلات واللمسات ليرينا الجانب الرجولي منه ويخفي جوانب ضعفه كما أنه لا يملك أي مبرر للكذب فعاجلاً أم أجلاً سيُقتل.

Toshirô Mifune in Rashômon (1950)

في الشهادة الثانية لزوجة الساموراي كانت في حالة انهيار تام .. وكانت شهادتها علي النقيض تماماً من شهادة قاطع الطريق ..حيث قالت بأنه بعدما أجبرها علي الخضوع له أعلن بفخر أنه تاجومارو سيء السمعة وضحك بإستهزاء علي زوجها المربوط ثم هرب يجري ضاحكاً في الغابة كالمجنون .. ذهبت إلي زوجها منكسراً معانقةً إياه لتصعق من نظرته الباردة الخالية من أي غضب أو حزن والمليئة بالإستحقار .. توسلت إليه ألا يفعل ذلك .. ألا ينظر إليها بهذه الطريقة .. فنظراته تقتلها .. ثم أحضرت خنجرها وفكت وثاقه وطلبت منه أن يقتلها .. ولكنه استمر في نظراته ففقدت الوعي وعندما فاقت وجدت خنجرها في صدر زوجها الميت .. الرواية الأضعف بالنسبة لي بين الروايات الأربع وذلك لأن ذاكرة الزوجة أسقطت العديد من تفاصيل الحادثة بسبب هول الأمر .. فهي لم تتطرق إلي تفاصيل حادثة الإغتصاب وإذا ما كانت قاومت أو لا بل حكت مباشرةً من بعد إغتصابها وكذلك غير متأكدة إذا كانت قتلت زوحها أم لا .. حادثة إغتصابها جعلتها تتقمص دور الضحية وكل من حولها جناة حتي زوجها وذلك من أجل تعزيز دورها كضحية .. رد فعل زوجها كان غير مقنعاً بتاتاً بالنسبة لرجل أُغتصبت زوجته أمام عينه فما بالك بساموراي!.

Machiko Kyô in Rashômon (1950)

في الشهادة الثالثة للساموراي الذي تم استحضار روحه عن طريق وسيط روحي .. تتشابه روايته مع زوجته مع عكس الأدوار الجاني أصبح ضحية .. قال بأن قاطع الطريق خدع زوجته وأوهمها بأنه اغتصبها بدافع حبه لها .. كلماته سحرت زوجته وأدخلتها في حالة غيبوبة وردت عليه بأن يخذها حيث يريد .. ولكن قبل أن تذهب معه عليه أن يقتل زوجها فطالما هو حي لن تستطيع الذهاب معه .. كلمات كان وقعها كالصاعقة علي زوجها حتي وجه قاطع الطريق شحب من تلك الكلمات .. فقام بضربها ووضعها أسفل قدمه وخير زوجها بين قتلها وإنقاذها .. من أجل هذه الكلمات كان رجل الساموراي مستعداً لمسامحة قاطع الطريق علي اغتصاب زوجته .. ولكن الزوجة تتمكن من التملص من قاطع الطريق والهرب فيركض محاولاً اللحاق بها ولكنه يعود خاوي اليدين ويفك وثاق زوجها الذي ينتحر بشرف علي طريق الساموراي .. تقمص الساموراي لدور الضحية مبرر كونه شاهد زوجته تُغتصب أمام عينيه ولم يستطع فعل شيء .. ولكن تعزيز دوره كضحية كان صادماً بالنسبة إلي من خلال إستعداده لمسامحة قاطع الطريق علي كل شيء .. ربما كان يحاول إقناع نفسه بأن قاطع الطريق حصل علي زوجته برضاها حتي يداري عجزه عن إنقاذها فنجم عن ذلك صورة مشوهة لها في ذاكرته .. وأما أنه يثبت حقيقة الشهادة الأولي والرابعة بأن الزوجة هي من أشعلت المعركة بين الرجلين وجعلتهما يشهرا سيوفهما مما أدي إلي مقتله وإنتقاله إلي الظلام.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏‏لحية‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏‏

في الرواية الرابعة لشاهد العيان التي امتنع عن إخبار المحكمة لانه يخفي شيء ما ولكنه يقصها علينا خارج نطاق المحكمة .. قال بأنه رأي قاطع الطريق يتوسل لزوجة الساموراي بعد أن أغتصبها من أجل الزواج منه .. مستعداً في سبيل ذلك لترك عمله الملوث ويوعدها بعيش حياة هنية .. لكنها ترد عليه بأن هذا الشيء يقرره الرجال فتقوم بتحرير زوجها .. ولكن الساموراي يرفض المخاطرة بحياته من أجل امرأة .. وأنه لا يريد هذه العاهرة الوقحة من الممكن أن يأخذها .. كلام الساموراي يستفز زوجته ويقلل من رغبة قاطع الطريق في الحصول عليها وعندما يهم بالرحيل تقوم الزوجة بإثارة الفتنة بينهما فيتقاتلا وينتهي الأمر بمقتل الساموراي بسيف قاطع الطريق وهرب الزوجة .. هذه الرواية جمعت جوانب الضعف والسوء للشخصيات الثلاث .. حيث أزالت اللمسة الرجولية البطولية التي أضافها قاطع الطريق لروايته عندما أظهرته بأنه ينحني للمرأة من أجل الزواج منها وكذلك القتال لم يكن بطولياً كما قلت في نهاية الشهادة الأولي حيث كان الرجلين خائفين للغاية .. وكذلك يزيل رجل الساموراي وزوجته من موقعهما كضحايا في روايتهما حيث أشعلت الزوجة الفتنة بين الرجلين وكذلك عدم الساموراي بزوجته التي تعرضت للإغتصاب .. ظهور الشخصيات مشوهة بهذا الشكل في رواية شاهد العيان ربما نابع من إعتقاده بأنه الرجل الذي يقول الحقيقة ومحاولة لتخفيف وطأة الذنب لسرقته الخنجر الثمين.

Takashi Shimura in Rashômon (1950)

إذا أردت أن تلتقط الحقيقة فعليك أن تجرد الأحداث من العواطف والأهواء .. وهذا يستحيل عملياً لأن ذاتنا تؤثر علي الإلمام بالحوادث المختزنة بالذاكرة وهذا التأثير يُعرف بتأثير راشومون .. وبسبب هذا التأثير يكون لشهود على نفس الحادث رويات مختلفة إلا أن كل تلك الروايات معقولة .. وهو ما يقدمه أكيرا بكل براعة في تحفته فيما يعرف بفلسفة الحقيقة .. فكيف تستنتج رواية مجردة من قاطع طريق مفتخر بأفعاله الدنيئة .. من إمرأة مسكينة تعرضت للإغتصاب .. من ساموراي شاهد زوجته تُغتصب دون أن يستطيع فعل شيء لمنع ذلك .. من شاهد عيان يحاول إخفاء سرقته!.

ترمز بوابة راشمون إلي الحضارة اليابانية .. وصور لنا أكيرا في بداية الفيلم بلقطات لسقوطها والحالة السيئة التي صارت عليها مشيراً إلي انهيار الحضارت اليابانية وانحلال أخلاقها في عالم أصبح مليء باللصوص وقطاع الطرق الذين يسرقون أي شيء حتي لو كانت ثياب طفل رضيع تركه والديه بجانب البوابة .. تغلف الكآبة الجو العام للفيلم بدءاً من الطقس الغائم الممطر وحالة اليأس التي تسيطر علي الشخصيات داخل بوابة راشمون والتي وصلت إلي فقدان الأمل في الإنسانية نتيجة الجرائم التي يرتكبوها بالخارج في الغابة .. إلا أن نهاية الفيلم توضح بأن أكيرا مازال متمسكاً بإيمانه بالإنسانية .. بدأ فيلمه بالجو الغائم الممطر وأنهاه بشمس مشرقة .. بدأ فيلمه بالموت وأنهاه بالولادة.

Takashi Shimura in Rashômon (1950)

محمد عرفان (Arf Ofy)
السينما هى كيفية أن تعيش أكثر من حياة .. حياة جديدة مع كل فيلم تشاهده .. وهدفي هو ترشيح أفلام جيدة ومختلفة تحترم عقليتك كمشاهد .. وتسحبك معها إلي عالمها المليء بالسحر والأفكار والمشاعر كي تعيش تجربة لا تُنسي تنغمس فيها بكل حواسك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *