تصل الحياة بنا إلي مفترق طرق تُباعد بيننا وبين الأحبة، ساعاتٌ تحين يطلق القدر من خلالها أجراس الأوان الذي حان لتنفيذ ما كتب وجفت سطوره، توهانٌ سائح في فضاء الكون يمرق الواحد فيه بحثاً عن أملٍ للبقاء، وقد تزداد الأمور صعوبةً ويحدث الكساد وفناء اية فرصة للمضي قدماً في ظل هذه الأعباء، فيبقي البعد حلاً وحيداً كي لا يزداد الفرد أعباءها فوق اعباءه، يعيش علي طريقته الخاصة ويرضي نفسه الطامحة لسلامها النفسي بعيداً عن جدران الواقع وأمانه الذي تلاشي كليتاً من الوجود.
مراجعة فيلم Nomadland
فيلم Nomadland قصيدة سينمائية في حب الحياة، ولمن لا يزالوا احياءاً بقلوبهم ووجدانهم يتماشون علي طريقتهم الخاصة متغلبين علي ذكريات الأمس المؤلمة التي تمنعهم من إسترجاع فرحة كانوا فيها ولا يذكرون منها إلا الحزن، وايضاً علي الظروف التي اغلقت أمام الكثيرون عديد الفرص من أجل الحفاظ علي عافيتهم المادية وأسس معيشتهم التي بنوها منذ فتراتٍ طويلة.فيلم Nomadland الذي يعد أحدث أفلام المخرجة “كلوي زاو” يلقي بظلاله عن كثب على هذا الفصل المؤسف في التاريخ الأمريكي بعيون سيدة أرملة عاشت آثار ما بعد كارثة الدمار المالي هذه، وكيف كانت تنشد التماسك وعدم الانصهار داخل حياة تعلن عصيانها لرغبات الناس ويشهر فيها الموت بطاقته الحمراء ليكتب نهاياتٍ في أوقات عصيبة لا تحتمل، رحلة دافئة علي الطريق تصفي البال من مشغولاته وتدعو صاحبه لإحياء ذاته وطرق أبوابٍ آُخر لهزيمة الفروض القيدية والبعد عنها كليتاً.لاسيما ان أحداث فيلم Nomadland تدور في فترة الركود الاقتصادي عام ٢٠٠٨ التي ربما كانت أكثر ضررًا علي المجتمعات الريفية في “امريكا” بإغلاق هيئات التوظيف المؤسسية طويلة الأمد مثل المصانع وتوقف عديد المصادر التي كانت بمثابة شريان الحياة لمدن وبلدات بأكملها.
تدور أحداث فيلم Nomadland عن فترة الانهيار الاقتصادي عام 2011 الذي تأثرت به بلدة “إمباير” في “نيفادا” وباتت غير آهلة للسكن، حيث تجبر سيدة في الستين من عمرها تدعي “فيرن” على العيش داخل شاحنتها المعدلة هيكلياً تتنقل بها في النهار وتنام فيها في مواقف السيارات ليلاً، في حدادٍ على فقدان زوجها ، وكذلك على نهاية المكان التي كانت تسكن فيه معه ، تسافر “فيرن” في رحلة عبر الغرب الأمريكي بحثًا عن عمل موسمي.ولكن بالرغم من أنها تعيش في عزلة داخل شاحنتها ، الا ان الرحلة لا تتشارك فيها لوحدها، فهي تلتقي بآناسٍ آخرين في نوبات العمل في مستودع شركة “أمازون” ، ومصانع تجهيز الأغذية ، وباعتبارها عاملة نظافة في إحدى الحدائق المتنقلة ، وتكتشف مجتمعًا ترحيبيًا من الأشخاص الذين يقودون القوافل وكل واحدٍ يحوي حكايته الخاصة وماضيه المحور في ذهنه ويتذكره بحلوه ومره جملةً وتفصيلاً.
تُعرف المخرجة “كلوي زاو” بميولها لطريقة السرد الشبه وثائقية، لذا تتابعت تفاصيل سيناريو الفيلم داخل عالمٌ حقيقي باشخاصٍ حقيقين من قلب الزمان والمكان، تحت رعاية فنانة قبل أن تكون مخرجة أدرجت شخصيتها وسط طبيعة تتصرف كما يحلو لها وقدر لها أن تكون على نفسه هذه الهيئة، وبهذا النهج استفاد المشاهد من رؤية جانبٌ إنساني يخفت وسط ظلامية الواقع الحالي، وتهيئة نفسه بحالة حسية يهتز لها المشاعر رضاً وسعادة بأن في الكون من يمتلك قلباً يسع مجتمعاً بأكمله ويحس بغطبته مما يفعله ويتألم ويحزن لمرضه وانكساره وخسرانه الذي لحق به.
هذا لا يعني أن النص لم يهتم بشخصيته الرئيسية، بل تعتبر “فيرن” محرك الفيلم الأول ومركز دوران الأحداث وبوصلة اتجاهها نحو النهاية، حيث يترجم السيناريو عناصر الزمان والمكان وطبيعة البشر الثابتين في محطات أثناء رحلة “فيرن” المتنقلة إلى مشاهد ومواقف تلو الأخر تساهم في توافق المتلقي مع “فيرن” في فهم مشاعرها ويرتقب ما سوف يحدث معها في الوقت الأحق ويتسامر معها وهي تتفاعل مع الآخرون وتشازكهم ما يفعلونه.تطلب ذلك إيقاعاً بطيئاً في سير القصة، ربما هنا يقع الاستثناء الوحيد في مثل ذلك الوتد الهام الذي بإمكانه الإيقاع بالعمل في فخ الملل والطويل، فالقصة أشبه بالمسرحية ذات الفصول المتعددة المرتبطة ببعضها البعض لإيصال المعنى الحقيقي، كان لا بد من اصطحاب المشاهد وسط هذه الأجواء المتكررة طوال الأحداث ووسط هؤلاء الناس الذين يتشابهون في عدة صفات مثل انهم يعيشون على الهامش، منسيون بإعدادٍ كبيرة، محطمون بسبب الاقتصاد، ولكنهم بدورهم يتحررون من قيودٍ أخرى تشتتهم عن ما هو سامي وراقيفي الحياة، لقد أرادت “كلوي زاو” أن نتأثر بكل فرد وتوثيق ذلك الاحساس عدة مرات، وترقب كيف اختاروا أن يجدوا الفرح والدفء بطريقة سهلة وسط ما يحدث من خرابٍ ويأسٍ عارم.
على مستوى الإخراج، لم تترك “كلوي زاو” أية تفصيلة دون أن تسلط عدسة كاميراتها عليها بداً من تفاصيل اليوم الفعلي ل”فيرن” وحلاوة ملذات مجموعات الرحالة وما يفعلونه بتواجدهم معاً، كان هناك اعتمادٌ واضح على لقطات ” Tracking” تتحرك كالجسد بجانب “فيرن” أثناء سيرها في أماكن التجمعات، وكثيرٌ من لقطات ال”close up” التي تعكس تعابير وجه “فيرن” ولحظات وحدتها داخل عربتها الخاصة.يأتي ذلك بجانب العمل بكل تأكيد على سلاسة تنقل الكاميرا بين شخصٍ واخر كما لو كان الغرض وثائقياً من الأساس وهو ما يضمن واقعية الفيلم بشكلٍ كبير، كحال القرار الأصح الذي اتخذته “كلوي زاو” في عدم تصميم أماكن للتصوير وإطلاقه داخل مواقع حقيقية بالفعل، كل ذلك يعزز حظوظ هذه المخرجة البارعة في الفوز بأوسكار الاخراج هذا العام إن أقيمت فعالياتها من الأساس.
بالنسبة ل”فرانسيس مكدورمند” القريبة من حصد أوسكار ها الثانية، فالشغف الكبير الذي أظهرته للقصة التي جلبتها ل”كلوي زاو” وطلبت منها أن تشارك معها هذا الحلم جعلت الأخيرة على أهبة الاستعداد لدفع “مكدورمند” نحو إظهار أفضل ما لديها، حيث قدمت في الفيلم تطبيقاً حياً لما يعرف بال”ميثود اكتينج” أو التجسيد بطرق يخلق من خلالها الممثل الشخصية داخله, و يعيش معاناتها وطريقة حياتها وتفكيرها.
لم تخشي “مكدورمند” عيش التجربة بطول زمنها وتكرار محطاتها، في كل مرة تشغل بالها بكيفية التكيف مع المشهد دون أدنى هبوط بالأداء وضمان استمرار فعاليته ووصوله لقلب المشاهد ويشعره بالدفيء الذي تملك منه حتى الرمق الأخير، هو إنغماسٌ تام داخل الثقافة وتأثرٍ شديد بتفاصيلها مما انعكس ذلك على حماس “مكدورمند” ل”فيرن” ورغبتها العارمة في قيادتها ضمن رحلة الابتعاد عن الماضي والسير نحو مستقبلٍ أفضل ومريح في الوقت ذاته.
في النهاية، يطرح فيلم Nomadland رسالة جمالية تهدف إلي عدم الانصياع للماضي الذي لا يبقي منه سوي الألم تدمع منه قلوب الحياري،فلا بد من المضي قدماً والبحث عن ما يمكن التشبث فيه من أجل البقاء علي عهدٍ مع الجانب المشرق من الحياة وعبور أصعب المحن وأكثرها مرارة.