مراجعة فيلم last night in soho
يعد المخرج الإنجليزي “إدجار رايت” من الأسماء الواعدة في صناعة السينما في الوقت الحالي، فهو أحد صناع الأفلام دائم الإستكشاف للطرق المختلفة في التصوير والمونتاج والخدع البصرية، و تتميز الأفلام التي يقدمها ب”الأسلوب” قولاً وفعلاً حيق تتكرر تلك البصمات الإخراجية وبفعاليةٍ تامة في بروز الحبكوات السينمائية بجمالياتٍ في كافة العناصر التي تصنع عملاً جيداً حتي ولو بصبغةٍ تجارية.
مراجعة فيلم titane – حينما تصير القلوب صلبة كالمعادن
لا ننسي بالطبع الجنون الغير طبيعي الذي قدمه “إدجار رايت” في فيلمه الأخير “Baby driver” عام 2017 الذي تخطي حاجز تصنيفه كعمل ترفيهي حتي وصل لسكة الجوائز والتقدير في موسم حصد الذهب حلم كل سينمائي في العالم، من قصة جيدة وأداء تمثيلي يتشارك معها نفس الصفة، وأجواء الأكشن والحركة التي تتراقص من خلالها الكاميرا علي نغمات الموسيقي الصاخبة وتفاصيل المشاهد التي تعكس تهور الشخصيات بما يضعهم في مواقف عصيبة ومتعددة في الوقت ذاته.
هذا العام، يطل “إدجار رايت” بأحدث أفلامه فيلم last night in soho الذي يعد آخر صيحات سينما الرعب النفسي التي باتت تحوذ علي أهميتها وسط الفئات الأخري وخصوصاً الرعب التخويفي المعتمد علي قفزات التخويف المتكررة والكائنات الغريبة في الملمح والطريقة والأجواء العامة التي تشعرك بوجود شخصٍ يمثل الخطر بحذافيره و سُيلاعب الأخرين بأسوء الطرق المفزعة لهم.
الأمور تختلف تماماً هنا،ففيلم last night in soho هو نوستالجيا إلي الماضي وبالتحديد فترة الستينات تدفع أي إنسانٍ للجنون وتثير مخاوفه حتي وإن كان بعيدٍ عنها بمسافةٍ ،وإثارة وتشويق تتسارع رويداً رويداً حتي تدوي مرةٍ واحدة في نصف الثاني علي وجه التحديد، حينما يختلط الخيال بالواقع وتتحول الأحلام إلي رؤي مفزعة ستسيل فيها الدماء دون ضراوة، وتنعكس علي الواقع بمفاجئات حادة التأثير.
تدور أحداث فيلم last night in soho عن “إليوزي” الفتاة الشابة التي تحصل علي منحة لدراسة تصميم الأزياء في “لندن”، ولكن حينما تصل “إليوزي” إلي هناك وتقيم في إحد الغرف المأجورة، يراودها العديد من الأحلام خلال فترة الستينات عن فتاة أخري تدعي “ساندي” الراقصة تتعرض لمعاملات مأساوية وتعسف من قبل مدير أعمالها، مما يصيب ذلك “إليوزي” بالارتياب حتي وصل بها الحال أن تكون طرفٍ في الأزمة لا إرادياً.
ينقسم فيلم last night in soho إلي نصفيين متساويين في الأهمية، الأول يتعلق بتقديم الشخصيات وإرثاء قواعد الحبكة بصورةٍ واضحة، ثم يحدث الإنتقال السلس إلي الأحداث الرئيسية التي تشكل بدورها مقدار الإثارة والتشويق الذي يتكبده السيناريو، وهنا يجب علي المشاهد الصبر الكبير من أجل نيل المتعة المرجوة من فيلم last night in soho، بل يجب فهم المقدمات التي آدت لحدوث ذلك البركان العاصف في النصف الثاني علي وجه التحديد.
علي الجانب الأخر، يتميز فيلم last night in soho بالمثالية الكبيرة في التوازن بين إستحضار (جماليات الماضي) علي مستوي الأماكن وهيئات الشخصيات الكلاسيكية والصخب المجتمعي الذي كان سائداً في فترة الستينات، و(التطور العصري) في المظاهر وطرق المعيشة وخصوصاً ما يفعله أغلب الشباب في الوقت الحالي، ذلك يحسب كليتاً ل”إدجار رايت” الذي إستحضر الشكل المناسب لتغليف حبكة الفيلم بطريقةٍ مختلفة خارجياً.
لأنه قصصياً يتناول أحد الظواهر الخطيرة التي كانت سائدة بشكل عنيف منذ فتراتٍ طويل، وهي فكرة الصناعة الجنسية والإباحية والدعارة، وكيف أن ذلك ما هو إلا تدمير لحرية المرأة وهادم لتطلعاتها بحياةٍ تحقق فيها ما تحلم به، والأسوء من ذلك إستغلالها من قبل العشرات من مدمني الرذيلة الذين يتعاملون مع هؤلاء النسوة بوحشية ناتجة عن رغباتهم الهمجية في تفريغ شهواتهم دون إكتراث بما يحدث لضحاياهم.
ولكن ذكاء “إدجار رايت” جعله يطرح تلك القضية بأسلوبٍ سينمائي أكثر لا يعتمد علي المباشرة السردية، بل إنه يسلط الضوء عليها من خلال شريطٍ متصل الأحداث يرتكز علي معدلات الإثارة والتشويق كعنصرٍ رئيسي من خلاله تتضح الفكرة ويسهل إدراكها.
التميز في النص السينمائي يقابله جودةٍ بصرية فائقة الروعة، وبراعة كبيرة في إستخدام طرق التصوير المختلفة من حيث اللقطات المتتبعة (tracking shots) للشخصيات كما تم رصدها خصيصاً في مشاهد أحلام “إليوزي”، والإستخدام المنضبط لتقنية ستديكام (steadicam) التي منحت اللقطات ثباتاً كبيراً يبرز من خلالها كافة تفاصيل المشاهد بوضوحٍ جلي.
بالإضافة إلي المونتاج المتقن الذي نجح علي وجه الخصوص في تواجد شخصية “إليوزي” ضمن اللقطات التي جمعت “ساندي” بمدير أعمالها “جاك”، وفي العموم تمكن من دمج المشاهد بعناصر الرعب والإثارة العديدة، والتنقل بين كل لقطةٍ وإخري بسلاسة بما فيها إستخدام تقنية “whip pan” التي تنقل الصورة من وضعية إلي وضعية بنفس المشهد، وتعكس رؤية الشخصيات لبعضهم البعض وحيوية المشهد الجاري بكل ما يدور فيه،والنتائج المترتبة علي القرارات المتخذة من قبل الشخصيات.
بالرغم من كونهم نجومٍ شباب لم يصلو بعض لمستوي الفئة الأولي من النجوم الامعين في السينما، إلأ أن الثلاثي “توماسين ماكينزي” و”أنيا تايلور جوي” و”مات سيمث” تمكنوا من قيادة فيلم last night in soho نحو النجاح بإمتيازٍ كبير في الأداء التمثيلي، البداية مع ” توماسين ماكينزي” التي نجحت في عكس مشاعر البراءة والطموح الكبير التي تريد تحقيقه إلي أن تحول الأمر إلي كوابيس مفزعة وأيامٍ عصيبة عليها نجد “ماكينزي” متمكنة من إرتجال الإنفعالات المناسبة وبيان ذلك تعبيرياً من خلال إنطباعات ذلك الوجه البريطاني الموهوب.
ثم يأتي دور “أنيا تايلور جوي” التي ربما بدأت في إظهار النضوج الفني ليس فقط في الشكل، بل في طريقة التجسيد الدرامي الناتج هنا عن الآلم والعذاب النفسي نتيجة نظرات الأخرين لها علي أنها دمية تلبي رغباتهم فحسب، ومع التحول الذي حدث في آواخر فيلم last night in soho نجد وجهاً مغايراً من “تايلور جوي” ويماثل تماماً ما فعلته زميلتها “توماسين ماكينزي”، ويختتم الحديث بأداء “مات سميث” الذي يحمل ملامح خبيثة تصلح تماماً في عديد أدوار الشر شريطة أت يتم فعلياً إستغلالها من قبل صناع الأفلام ، لإنها تتضح هنا بشكلٍ مخيف آي نعم، ولكنها مثالية تضفي إحساس الريبة من الشخصية بطريقة مؤثرة.
في الختام، متوقع أن يحظي فيلم last night in soho ببعض التكريم الفني في موسم الجوائز بما ان الفترة الحالية هي فترة العروضات المؤدية لموسم الأوسكار عن هذا العام 2021، وإن دل ذلك علي شئ فإنه يدل علي الموهبة الإخراجية الكبيرة التي يتمتع بها “إدجار رايت” وقدرته علي تقديم نوعيات مختلفة من الأفلام آخرها ذلك الإنجاز الكبير الذي سيعطي أفلام الرعب النفسي والسيكولوجي رونقاً خاصاً قصصياً وبصرياً يختلف تماماً عن أي عملٍ قدم سابقاً.