مراجعات

مراجعة فيلم Dunkirk .. لنبتعد عن التقليدية

مراجعة فيلم Dunkirk

الحرب … تلك المحنة التي تشكل وجدان وعقول الشعوب … تلك المهمة التي أشبه بالعبودية في العصور المظلمة للبشرية … أغلبهم يساقون إلى الموت دون رغبة في القتال … يموتون من أجل أطماع ومن أجل رفعة أشخاص وقليلون هم من يقاتلون لأجل أفكار راقية … يتخبطون بين الواجب وبين شهوة الحياة … الحرب .. هذه الشعرة بين الرجاء واليأس … تلك الحرب التي يذهب فيها أناس من أجل أناس … وتسيل فيها الدماء من أجل مفاوضات … يألمون من أجل آخرين منعمون … ويصبح الهدف الأسمى هو العودة للوطن مهما كانت النتيجة .

مراجعة فيلم Dunkirk .. لنبتعد عن التقليدية 1

هذه الوجوه والأجساد التي تتحول في لحظات إلى أشلاء … هذه العلاقات التي تصبح في لحظة ما ذكريات …هذه الحيوات التي كانت وتحتال كأن لم تكن … هذه الأفكار والشعارات التي تحيل أسماء البعض إلى هباء منثورا … هذه الحياة التي أصبحت هشيما تذروها الرياح وتتحطم على صخور يأسا لا حد له سوى الموت …

دنكيرك … تلك المعركة المفصلية المنسية في زخم الحرب العالمية الثانية والتي توارت وراء شهرة القنبلة الذرية وذياع صيت الإنزال الأمريكي على شاطئ نورماندي … تلك المعركة التي جرت لحماية بريطانيا من الغزو النازي … صورها العظيم كريستوفر نولان كما لو كانت فيلما تسجيليا يرصد أنفاسا فارقت الحياة وأخرى تنازع الموت … يرصد مشاعرا وأفكارا .. يرصدها دون كلمات ولا ذكريات .

مراجعة فيلم Dunkirk .. لنبتعد عن التقليدية 2

فخرج نولان عن النمط التقليدي للأفلام الحربية التي اعتدناها … خرج من إطار ذكريات المحارب مع أهله وزوجته و أبنائه … خرج من حوارات المحاربين التي ترقق القلوب وتدمع العيون … خرج من شخصنة الحرب وقدم لنا معركة الحرب … هي فقط وجوه لا نتذكر حتى اسماءها … وجوه تحكي كل شئ دون أن تتفوه بالكلمات … وجوه مذعورة ترسل لنا الخوف … وجوه حالمة بأرض الوطن ترسل لنا الأمل … وجوه سعيدة بالنجاة ترسل لنا التفاؤل … أرسل لنا نولان كل المشاعر والأحاسيس دون الكثير من الكلمات … أرسل لنا في فيلما يصعب تكراره رسالة تحمل كل معاني الحرب وكل معاني الإنسانية في آن واحد …

دنكيرك معركة جرت أحداثها سنة 1940 من 26 مايو إلى 4 يونيو … أيام قليلة جرت فيها حرب بين جنود متمرسين وبين آخرين بلا أدنى خبرة … أيام قليلة انتهت بالحفاظ على ماء وجه بريطانيا التي كانت يوما ما عظمى … كانت الخطة الأصلية تقضي بإنقاذ 45000 جندي بريطاني وانتهت بإنقاذ 300.000 جندي بريطاني وفرنسي … صورها نولان في نسق بديع لسيناريو قلما نشاهده في السينما فقدم لنا نولان ثلاث مهمات رئيسية برا وبحرا وجوا … وحيث أن المهمات الثلاثة تختلف مدتها فقد استخدم نولان تقنية (finish to finish) فالثلاث مهمات بدأوا في توقيتات مختلفة ولكن انتهت جميعها معا في زمن محدد ونقطة إلتقاء واحدة هي الإنقاذ … استخدم نولان ثلاثة خطوط بثلاث أزمنة مختلفة ليوضح صعوبة كل منها … فكانت أطول مهمة وأكثرهم تفاصيلا هي في البحر وأقصرهم في الجو .

مراجعة فيلم Dunkirk

وفي سياق الحرب البحرية نسج نولان قصة قصيرة بديعة… فنطالع هذا القارب للمدنيين الذي يشارك في عملية الإنقاذ … ويظهر جندي كل همه فقط هو العودة للوطن ولكن يجن جنونه عندما يكتشف أن القارب الذي أجاره وجهته إلى الجحيم الذي فر منه هاربا … إلى دنكيرك … كيف هذا الذي كان شجاعا يوما ما أن يستحيل لهذا الجبان الذي يأبى حتى إنقاذ ضحايا آخرين … كيف أصبح جبانا يحدق من النافذة ويرى القنابل التي تصم الآذان وتميت القلوب ويرغب عن إنقاذ أنفسا لا هم لها سوى الحياة … كيف أضحى الضحية جلادا ويقتل من يساعده … نولان لخص في مثال حي ما تفعله الحرب بالرجال في ومضة ضعيفة مقارنة بالمعركة … نولان رسم كل هذه المشاعر المتضاربة في لوحة بديعة بألوان باهتة فلا نرى زرقة المياه ولا بياض الأمواج … فاللون الوحيد الذي يعطي الحياة للصورة هو اللون الأحمر … لون الدم … 

ومن الأمور المدهشة في هذا الفيلم البديع أنه أظهر المشاعر الإنسانية كنسيج واحد مع المعارك الحربية … وكأن الإنسان والمكان قد استحالا شيئا واحدا … كيف استحال أديم الأرض ليتخضب بالدماء … كيف استحالت المياة الزرقاء لبقعة وردية من الدماء والأشلاء … كيف تحول النسيم العليل لدخان يطبق على الأنفاس … كيف يدرك المرء أنه كان يطارد خيط دخان حين كان يحارب من أجل آخرين …

مراجعة فيلم Dunkirk .. لنبتعد عن التقليدية 3

الأمل يلوح في الأفق …البوارج قادمة … القطار قادم… ولا يزال أحدهم في الجو … ما هذه الصلابة التي يجدها المرء في نفسه عند مواجهة الموت الذي يأتيه من كل مكان .. من أين أتت له هذه القوة ليواجه شبحا أسودا في كل لحظة … ولكنه فقد كل قواه فآنى له القدرة على المقاومة …فسقط أحدهم هذا وهوى إلى الأرض من عنان السماء … ترى أيصبح هو الآخر إسما في لائحة المفقودين … أتراه سيرى أرض وطنه مرة أخرى أم سيظل يحلم بها طيلة أيامه المتبقية … هل ازدحمت الأفكار في رأسه وتصارعت مع مشاعره آملا في عودة أحدهم لإنقاذه … هذا ما لن نعرفه أبدا …

لن أتكلم عن عظمة الموسيقى التصويرية والتي صورت لنا معاناة جنودا لم نعرفهم … تعاطفنا معهم من خلال موسيقى أشبه بالملحمة … سيناريو رائع ومتماسك أبدع فيه نولان الذي تورات خلفه كل أداءات أبطال الفيلم … دعونا نرى الفيلم من منظور مختلف ولنبتعد عن التقليدية التي ليست من عناصر أفلام كريسنوفر نولان بكل تأكيد .

بقلم : مروة يوسف

Behind The Scene
بيهايند هي كيان سينمائي مصري متخصص فى مجال ترشيحات الأفلام والمسلسلات وتقديم تغطية لكافة الاخبار الفنية في السينما والدراما