في بداية مراجعة فيلم Concrete Cowboy ، يمكن القول أن قد لا يستطيع الإنسان أن يتلاءم بأوضاعه مع الواقع الحالي في ظل التغيرات النفسية والعقلانية التي تطرأ علي الناس في كل يوم وكل لحظة، قد ينبذ فعل الصواب ويميل للخطأ يداوم علي كسر القوانين وعدم احترام الأخرين والمثول للعنف وسيلةٍ من أجل إثبات الذات نافراً أيضاً من أقربائه وأحبائه الذين يتمنون له سلاماً يومياً في الدنيا ومجابهة كل ما يقف أمام طريق أحلامه وطموحات.
فيبقي الحل هو الابتعاد لوهلة عن صخب تلك المعيشة الصعبة وتصحيح الأمور سواء مع النفس أو مع الأخرين، وخصوصاً حينما يتعلق الأمر بمن يهمهم أمرنا ويحاولون توطيد كافة العلاقات الإنسانية والإجتماعية معنا بكل هدوءٍ ورزانة وبأية طريقةٍ ممكنة، فتتغير حياة الفرد إلي الأفضل ويدرك غايته في الدنيا، والأهم من ذلك هو أن تتغير حياته للأفضل دون أن يعكر صفوها المشكلات وتبيعات الماضي المؤلم معنوياً بدرجةٍ كبيرة.
قائمة بأقوى افلام الدراما – مرحباُ بك في الواقع الأليم
مراجعة فيلم concrete cowboy
فيلم concrete cowboy نفحةٌ درامية مميزة تقدمها منصة “نيتفليكس” علي طاولة محبي السينما الواقعية والمتصلة بما يدور حولنا والتي تتعرض للمشكلات الاجتماعية الملموسة بحق بمنظورٍ سينمائي تطابق الأصل في كافة تفاصيله وبدون أية مبالغاتٍ أو تحريفٍ زائد عن الحد، حكاية إنسانية ترتكز في مضمونها علي النظرية السابقة وتقدمها في شكل رحلةٍ تغييرٍ شامل وجذري من وضعية إلي وضعية أخري تصلح كل ما انكسر في فؤاد شابٍ صغير لما يرد له القدر أن يعيش في سكينة بدلاً من إثارة المتاعب مرةٍ تلو الأخرى.
ويقدم في الوقت ذاته و بشكلٍ واسع تصوراً حقيقياً عن مجتمع رعاة البقر ذوي البشرة السمراء الذين يفخورون بإختلافهم عن بقية الناس ويحاولون التكيف مع بيئتهم المتوسطة شكلاً ومضموناُ كسكان متجانسين يهتمون برعاية الخيول وتربيتها كعملٍ أساسيٍ لهم، كل هذا ترتب في هيئةٍ سينمائية مسرودة بطريقةٍ يسهل علي المشاهد التعلق بها وإستعياب كل شبر كائنٍ داخل تفاصيلها التي تستحق الإشادة والتقدير عن إستحقاق.
قصة فيلم concrete cowboy
تدور أحداث فيلم concrete cowboy عن “كول” المراهق الشاب الذي تضطر والدته إلي إرساله للعيش مع والده القاطن بإحدي مجتمعات رعاة البقر السود في “فيلادلفيا” علي إثر مشاغبته المتكررة والمتاعب التي يتسبب بها بشكلٍ مستمر، يعارض “كول” الأمر في البداية، ولكن بعدما تيقن أنه لا حلاً أخر له سوي أن يتأقلم مع الوضع، تتغير حياة “كول” رويداً رويداً وينجح في الوصول إلي سلامه النفسي والأهم من ذلك مع والده “هارب” الذي يكن إهتماماً كبيراً للإخرين ممن يقيمون معه في البلدة.
نجح سيناريو فيلم concrete cowboy في تقديم الحبكة منذ البداية دون مطٍ او تطويل كي يترك الوقت كله في التمهيد لما سيطرأ علي “كول” من تحولاتٍ ذاتية لاحقاً، وأقدم علي قرارٍ صائب بتأجيل حقيقة الأب “هارب” وأسباب مشاكسة “كول” معه بعدوانية شديدة لما بعد مرور البعض من أحداث الفيلم، وأدرجها في اللحظة المناسبة حينما حدث التفجر الكبير في القصة الذي تغير بعدها كل شئٍ تدريجياً، وبات “كول” يتحسس خطا الطريق الصحيح بعدما مر بكثيرٍ من العوائق أهمها تلك التي حدثت في النصف الثاني من الفيلم.
التأثير الدرامي الذي تركه فيلم concrete cowboy في النهاية كان جيداً بحق، ينبع تارةٍ من العلاقة الفاترة بين “كول” و”والده”، وبين أفراد مجتمع رعاة البقر المسالمين الذين يعيشون علي إيقاعات البساطة والراحة النفسية البعيدة عن ضخب وضوضاء المدنية المثيرة للحنق، لا تمضي مشاهد الفيلم إلا وتترك معها إنطباعاً جيداً يمنح الفيلم بصمة الإجادة لقدرته علي قولبة الأحداث في بضعة أوقات من أجل إضفاء الحس الدرامي والواقعي إن صح التعبير أيضاً علي الأحداث، وإدراك أن ما سيحدث بعد ذلك هو بمثابة النتيجة التي آل إليها الفيلم نتيجة ما ورد من تفاصيل سابقة.
علي ذكر نقطة رعاة البقر السود، هناك توسعٍ ،يتحمله السيناريو نظير ما قدمه بإمتياز في العناصر التي ذكرت مسبقاً، في تسليط الضوء علي يوميات هؤلاء القوم خصوصاُ في تربية الخيول وإعتزازهم بذلك عن طريق الإهتمام اليومي بالعناية بهم و بمكان سكنهم وغذائها ومشربهم وما إلي ذلك، وذلك لا بأس به في ظل أن ذلك العنصر يخدم القصة أيضاً بشكلٍ آخر منعكس علي شخصية “هارب” التي يُفهم بكل وضوحٍ لما إقتاده تفكيره للمكوث مع هؤلاء الناس بعيداً كل البعد عن إبنه الوحيد الذي لا يملك غيره،ولهذا يمكن القول إن من أهم علامات نجاح هو النص السينمائي الذي لم يبخل علي من يتابع الفيلم في شئ فيما يخص القصة ودقائق موضوعها.
أكثر ما يميز فيلم concrete cowboy علي المستوي الإخراجي هو الجودة التي تتحلي بها لقطات الفيلم من حيث الإضاءة الطبيعية وحصر كافة معالم الطبيعة التي تشكل مركز الأحداث دخل اللطقة بما يظهرها كاملة الوضوح والنقاء، بجانب اللقطات التصويرية القريبة “close ups” التي تعكس بدورها حالات الشخصيات أثناء التعبير عما يدور بداخلها أو توصيفاً لتفاصيل حياتهم داخل أروقة إسطبلات المستودعات، كل ذلك يساهم بدوره في تلك الجمالية التي يتحلي بها الفيلم وتؤسس الشكل الأمثل لتوالي الأحداث بكل سلاسةٍ ويسر.
التوصيف الدقيق لسببية الإعجاب بأداء كلاً من “كاليب ماكلاهين” والبريطاني الأنيق “إدريس إلبا” هو التناغم الشديد بينهم علي المستوي الحواري بما يجعل تلك اللحظات قابلة للتصديق كحال الواقعي منها، فردياً لا يزال “إدريس إلبا” يحتفظ بوقاره وهدوئه وإبتسامته العذبة التي تنم عن الإنتماء للمكان والزمان الذي يعيش فيه حالياً، وكذلك مقدار الحب والوله لسكان مجتمع “فيلادلفيا” النابع من قناعةٍ جمة بأن هذا هو الطريق الوحيد للشفاء من جروح السابق، فبالرغم من قلة التحديات الصعبة التي واجهته في تأدية شخصية “هارب” إلا أنه تمكن من تقدين المعهود منه والذي يتناسب تماماُ وللمفارقة مع طبيعة الشخصية بالفيلم.
علي الجانب الأخر هناك نضوجٍ فني ملحوظ علي “كاليب ماكلاهن” الذي كان صغيراً في مسلسل stranger things وكبر في الوقت الرهان وكبر معه القدرة علي التجسيد متمثلة في الإرتجال الإنفعالي المناسب من غضبٍ وسعادة وشعورٍ بالخطر والوحدة، وذلك هو العنوان الأساسي لنجاح مجهودات “ماكلاهن” في أحد الأدوار الصعبة البعيدة كل بعد عن ما في مسلسل الظواهر الغريبة بأجزائه الثلاثة
في الختام، لا تزال القدرة علي الإبداع في السينما الواقعية موجودة وبغزارة، وبات لا يخلو أيُ عامٍ سينمائي من غير قطعة فنية تكسر الكليشهيات المعتاد تقديمها كل مرة وترصد الحياة الاجتماعية للبشر بعدة سبلٍ لا تفقد العمل مصداقيته عند من يشاهده، و فيلم Concrete Cowboy من الأمثلة الحديثة علي ذلك بما قدمه علي الصعيد الدرامي و كان ملموساً بشكلٍ كبير فيه ينتهي دون أن لا يترك انطباعا إيجابياً يوحي بأنه بالفعل قريبٍ للغاية من المجتمع الذي قدمه فيه ويحوي تجسيداً حقيقياً لما يترتب عن النزاعات المستمرة و المعتادة بين الناس وبعضهم.
