مراجعة فيلم Broker

بعد غيابٍ دام لأربعة سنوات منذ فيلم الأخير “Shoplifters” ، يعود المخرج “هيروكازو كوري إيدا” بفيلم Broker لكي يكرر نفس النجاح الذي حققه حينما إنتزع عن جدارة جائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان عام 2018 ، والعودة هنا ليست بغرض حصد الجوائز والتكريمات المختلفة فحسب، بل هي بغرض ترسيخ إسم “هيروكازو كوري إيدا” كواحدٍ من صناع السينما القادرين علي نقل تأملاتهم وتصوراتهم للحياة الواقعية ولطبائع البشر بصورةٍ قابلة للتصديق تطابق المفاهيم التي قد تتشكل بمخيلات البعض تتخلالها، وتعي في الوقت ذاته أنها أفلام سينمائية قد تحمل قدراً معيناً من المتعة والتفاعل الجماهيري لا تكون مجرد أعمال توعوية تدور حول الفكرة بصيغةٍ معنية ومباشرة للمتلقيين في بعض الأحيان.

وبتأملٍ بسيط في سينما “هيروكازو كوريدا” نجد أنه يتطرق في أغلب أعماله لمفهوم العائلة والروابط الأسرية التي تجمع بينهم وتأثير مواقف معينة في الحياة عليهم وعلي تفكيرهم في الأمور، ويتفنن “كوري إيدا” في إبراز مشاعر شخصياته بما ينعكس الناتج العام من كل لحظةٍ وتفصيلة قدمت علي المشاهد بطريقة تجعله مدركاً للقرارات المتخذة أو التحولات التي تطرأ علي الأحداث في أوقات الذروة وخلافها، لهذا تكون المحصلة النهائية بالغة الشاعرية تلمس القلوب من مدي تلك الإنسانية التي تتجلي داخل المكون السينمائي ، و الواقعية التي تحتدم معها المشاعر وتعبر عنها لغة الجسد بأية طريقة تبرز تأثير الفكرة الكبير وتوضحه.

في فيلم Broker ، نحن أمام ميلودراما رفعية المستوي قصصياً وإخراجياً، لا تحتاج إلي زيارة أحد لأعمال “كوري إيدا” السابقة من أجل فهم وإستيعاب فلسفته السينمائية لمعايشة لحظات العمل و تدربها، فإن فيلم Broker يتمحور حول نفس الأفكار التي يعشقها “كوري إيدا” ويقدسها، ولكن بنمطٍ مغاير في الكثير من العناصر السينمائية يجعل من السهل إدراك الفيلم للثناء النقدي في مهرجان “كان” السينمائي هذا العام، ويزيد من رصيد السينما الواقعية التي أصبحت تنعم بالأهمية الكبري لدي الجمهور، وبتعدديةٍ واضحة في الأعمل سواءاً هوليودية أو أجنبية.

حصيلة مهرجان كان ٢٠٢٢ وقائمة بأهم الأفلام التي عرضت فيه

قصة فيلم Broker

تدور أحداث فيلم Broker عن إثنان من الأشخاص يقومان بأخذ الأطفال من الصنادق المخصصة لترك الأطفال الذي تريد أهاليهم التخلي عنهم، لكي يقوموا بعمل صفقات مع عائلاتٍ أخر تحتاج لهؤلاء الأطفال من أجل رعايتهم مقابل المال، ولكن تنقلب الأمور عليهم حينما ترغب أحد الأمهات بمعرفة مصير إبنها، فتنطلق مع هذا الشخصان في رحلة عبر “كوريا الجنوبية” من أجل الوصول للعائلة المناسبة التي ستعيل إبنها.

ينجح “هيروكازو كوري إيدا” في نيل إهتمام المشاهد عن طريق الإعتماد علي فكرة الرحلة كخط رئيسي للأحداث ليس فقط الغرض منه الوصول للغرض الذي تبتغيه الشخصيات وهو إيصال الرضيع “ووسونج” لعائلة ترعاه ، بل نكتشف معه الشخصيات بأريحية مطلقة يتكون من خلالها الشق الدرامي للقصة التي نتج البعض من المواقف الشاعرية الجميلة وخصوصاً في النصف الثاني من الفيلم، وكذلك مفهوم العائلة التي من الممكن أن لا تكون من نفس الدم وتجمعهم الروابط، بل مجموعة من الشخصيات وصعهم القدر أمام بعضهم البعض وتشكلت علاقة وطيدة بينهم بما يحرك بدواخلهم العواطف المناسبة التي قد تغير مفاهيمهم للحياة.

وخصوصاً أن شخصيات الفيلم وعلي الرغم من كونهم منحازين عن فعل الصواب يطمح كل واحدٍ منهم للحياة التي لا تجعلهم فريسةٍ للأوضاع الصعبة والظروف الإقتصادية التي تجعلهم يتخذون مثل هذه القرارات التي تابعنها في الفيلم، وعلي ذكر طبيعة الشخصيات قد يري البعض أنه من غير المنطقي التعاطف مع خارجين عن القانون، وذلك مفهوم بالطبع ولكن بمرور الأحداث سنكتشف أن هؤلاء الشخصيات ضحية ظروفٍ معينة جعلتهم في تلك الوضعية، وأن بداخلهم بشر يتحلون بإنسانية خيرة ويعلنون عنها أيضاً علي العلن مثل الثنائي “سانج هيون” و “دونج سو” الذان بالرغم من أنهما يتجارا في البشر بصورةٍ غير قانونية، إلا أنهما يبحثا عن الأشخاص المناسبين من أجل أن يحظي هؤلاء الأطفال الأبرياء بحياة كريمة مثلهم مثل غيرهم.

النقطة الأخري التي قد تجعل فيلم Broker في درجة أقل من فيلم “Shoplifters” من ناحية التكامل السينمائي هو الخط المتعلق بالشرطتيان الذيان كان يطاردا “سانج هيون” وفاقه من أجل الإيقاع بهما، لأنه كان هناك تصورٍ شخصي بأن هذه الشخصيات لا تكمن أهميتهم سوي في نهاية الأحداث لا أن يأخذوا مساحة من الوقت أثناء التفاصيل الرئيسية، وهذه كانت مشكلة تدراكها “كوري إيدا” في النهاية كي يختتم الفيلم بنهاية مناسبة ليست مبهمة سوي في عنصرٍ واحد فقط لا غير ولا يمكن ذكره لتجنب الحرق.

يأتي إلي جانب تميز القصة الأدائات التمثيلية وخصوصاً ل”سونج هانج هو” الفائز بجائزة التمثيل في مهرجان “كان” السينمائي الذي تمكن من التنقل بين الأنمطاط التمثيلية تماشياً مع طبيعة الأحداث سواءاً كانت درامية أو خفيفة الظل تعكس الروح الكبيرة التي تجمع أفراد المجموعة، يشارك “هانج هو” في ذلك الثناء المغنية الشابة “إيو” التي تكفي تعبيراتها فقط للكشف عن الصراع النفسي التي تخوضه من ناحية التمسك برضيعها أو التخلي عنه، وكذلك الإنكسار الداخلي نتيجة تلك الظروف التي لم تكن ترغب بالتعرض لها نهائياً.

في الختام ، يعزز فيلم Broker هوية المخرج “كوري إيدا” السينمائية التي تستطيع إرثاء أفكارها بطريقةٍ فريدة متعددة الأبعاد الإنسانية، وإن إستطاع “كوري إيدا” تدوير هذه الأفكار بطرقٍ مختلفة من ناحية المعالجة الفنية، فبكل تأكيد سيصبخ “كوري إيدا” ظاهرة فنية تمتلك القدرة علي نسج عديد القصص من فكرةٍ واحدة لا تتغير ، وإبرازها بصورٍ سينمائية رفيعة المستوي.