مراجعة فيلم annette
لمن لا يعرف “ليوس كارارس”، فهو مخرج فرنسي يمتلك لغة سينمائية خاصة لا تعتمد الشكل التقليدي في المباشرة علي مستوي السرد ووضوح معاني الفكرة وتفاصيلها، وتتميز بلمعانٍ فني ساحر ومشاهد بصرية معقدة لا يمكن وصفها سوي بالأيقونية ان تعامل البعض معها علي حدٍ منفرد وبتجريدٍ من السياق العام للحبكة والرؤية القصصية للعمل.
Holy Motors يجب علينا ان نضحك قبل منتصف الليل
يعتبر “ليوس كاراكس” من صناع السينما الذين لا يقدمون الفن من أجل تلقي الإرشادات النقدية وحصد الجوائز والتواجد هنا وهناك في المحافل السينمائية العالمية، ما يشغله فقط هو التلون السينمائي بأسلوبٍ مختلف عن النمط المتعارف عليه، فقد تأثر “كاراكس” بحسب ما ورد في المقالات التي تحدثت عنه وعن أفلامه بأحد المدارس الفرنسية في السينما فترة الثمانينات بإسم السينما الشكلية، والتي تهتم أولاً وأخراً بالأسلوب وآليات تنفيذ الفكرة بما يؤثر في الأساس علي الإدراك الحسي عند المشاهد علي حساب العناصر الأخري من تصوير ومونتاج وغيرهما.
أبسط مثالٍ علي ذلك هو فيلمه الأخير “Holy motors” إنتاج عام 2012، والذي يقدم من خلاله مجموعة من المشاهد المتفرقة التي تعكس وقائع حياتية مختلفة من وحي ما رصده “كاراكس” سواءاً بشكلٍ مباشر يخصه أو يحدث نصب عينيه في الحياة العملية، وبالطبع لا يطرح رسالته بطريقة واضحة المعالم، بل يزينها بأفضل المشاهد واللحظات التي تدعو المتلقي لتناولها حتي ولو منفردة وفهم ما ينعكس من خلالها، ومن شاهد الفيلم يعرف تفاصيل التسلسل الأول منه، وأن ما يحدث هو مجرد فيلم ليس إلا، إلي أن تتوالي الأحداث و تلوح تلك الحدود الفاصلة بين الحقيقة والخيال التي منها يتضح المعني الحقيقي لما يدور في عقل ذلك الفرنسي الحالم في ملكوت الفن السابع.
الأمر يختلف في فيلم annette بعض الشئ وعلي عكس ما يعرف عنه “كاراكس”، قصة مباشرة بفكرة قريبة أكثر لما يدور في الوسط السينمائي والفني، ولكنها مغلفة برمزياتٍ غدة التي تجعلها موزونة هي الأخري بين الحقيقة والخيال، فحتي لو نشد “كاراكس” التغيير في عمله الهوليودي الأول، لن ينسي أن يضفي لمسته الخاصة في كلاً من البداية والنهاية، وأيضاً من خلال الأحداث التي تشبه القصيدة الشعرية ولكنها تنبض بالحياة وتتخطي ذلك الحاجز بين الشئ المرئي ونظيره المكتوب أو المسموع.
قصة فيلم annette
تدور أحداث فيلم annette عن “هنري ماكهنري” المونولجست الكوميدي الذي يقع في حب فتاة المسرح “آن”، وينجب منها فيما بعد الطفلة الصغيرة “آنيت”، ولكن سرعان ما تتغير حياة هذا الثنائي وعلي نحوٍ غير متوقع عقب ليلة ولادة تلك الفتاة الصغيرة التي تمتلك قدراتٍ غير عادية وإستثنائية بما تحويه الكلمة من معني.
!!!!SO MAY WE START
فيلم annette يعتمد الشكل الغنائي التام من خلال المقطوعات الموسيقية التي كتبها الإخوة “مايل”، نمطٍ معتادٍ علي الجماهير ليس بالجديد وشاهدنا مثله في أفلام مثل “West Side Story” و “La La Land” قليلاً، ولكن العمل بطبيعة الحال ليس إستعراضي في المقام الأول، هو يمتلك فكرة محددة ليست عامة علي عكس طبيعة ما قدمه “كاراكس” في فيلمه السابق، وهي ببساطة تدور عن الشهرة وسلبياتها خصوصاُ حينما ينكوي صاحبها بنيران فقدانها نتيجة ظروفٍ معينة، وتجعله فيما بعد بهويةٍ مختلفة تستعدي الدنيا ولا تكون سوية ترتكب الأخطاء دون أن تدري ما سيكون تأثير ذلك علي من حولها.
وقد عرف سيناريو “ليوس كاراكس” الوصول إلي تلك النقاط المحورية بنجاح عن طريق تصاعدية الإيقاع والإبقاء علي التيمة الغنائية سائدة ومفيدة بمضمونها البديع صنع الإخوة “مايل”، سهل ذلك علي المشاهد إدراك المعاني الدفينة بالقصة المرتكزة علي رمزيات الحب والحياة والقسوة والموت والحقد والغضب وغيرهم مما قد يصعب علي أية عملٍ تحمل مثل تلك العناصر، ولكن ذكاء “ليو كاراكس” جعله قادراً علي دمج كل هذا التفاصيل داخل الفيلم دون أن يُركزه داخل إطار الجدية والمليودراما إلا عند الرمق الأخير من فيلم annette.
نقطةٍ أخري ولن يتم الخوض من خلالها في التفاصيل لتجنب الحرق هي جرأة “كاراكس” فيما يخص رؤيته لشخصية الطفلة “آنيت”، فقد تمكن من أن يجعل المشاهد لا يحس بالمبالغة أو عدم المنطقية، بالطبع لم يحدث ذلك منذ بداية ظهورها علي الشاشة، ولكن بمرور وقت ليس بالكثير صار هناك تفهميٍ للمعني الحقيقي للفكرة التي تنبثق تماماً من دوافع الشخصيات التي ولجت صادمة بكل تأكيد وخصوصاً من “هنري” الذي جسده ببراعة “آدم درايفر”.
وعلي ذكر “آدم درايفر”، فذلك الممثل الشاب بات الآن واحداً من الأسماء الامعة في الوقت الحالي نظراً لذلك التفاني في التجسيد وتقمص الشخصيات كما لو كانت هو في الحقيقة، هنا لا يجيد “درايفر” الغناء فحسب، بل إنه يوازن ذلك مع الإرتجال الإنفعالي والحيوية الحركية في أداءٍ يضمن له الأوسكار لذلك الزخم الكبير الذي حافظ عليه “درايفر” متمامسكاً للنهاية قبل أن تسكنه أجواء المشهد الأخير من الفيلم ويهدأ تماماً QUIET.
يقابلاه علي الجانب الأخر الثنائي “ماريون كوتيارد” التي لم يمحي الغياب عن السينما قدرتها علي إتقان دور “آن” خصوصاً في الجانب الغنائي إلي جانب التمثيلي الذي نعرف عن “كوتيارد” براعتها فيه، وكذلك “سايمون هيلبرج” الذي لو نظرت الأكاديمية للفيلم علي أنه عملاً يستحق تقديره بالجوائز فلا بد أن تمنح الأخير ترشيح اللمثل في دور مساعد علي واحداً من أفضل مشاهد الفيلم تسيده “هيلبرج” منفرداً وقدم فيه أداءٍ لا يمكن لأحد عدم الإنتباه له بتاتاً.
الإبداعية في الأسلوب كما عودنا “ليوس كاراكس” تجسدت في اللقطات المسرحية التي قدمت علي درجةٍ كبير من الجودة والإتقان، وتجسد الخيال من خلالها بصورٍ فاتنة للعقول وجذابةٍ تماماً للعقلية الجماهيرية المحبة للفن وتشخيصاته المختلفة، بالاضافة إلي المشاهد القليلة التي تروي جزءاً من الحكاية بطلاوةٍ تصويرية حسنة، فكما كان مُتقناً لكتابة سيناريو فيلم “annette”، كان “ليوس كاراكس” في أوج عطائه علي مستوي القرارات الإخراجية التي جعلت من الفيلم أوركسترا سينمائية ترقص علي إيقاعاتٍ متفردة لا تحتاج سوي لفنانٍ عبقري يترجمها إلي شئٍ مرئي لا مثيل له.
في النهاية، ينهي “ليوس كاراركس” فيلمه بطريقةٍ توحي بالرغبة في إسكات شياطينه التي تتصارع علي شحذ همته بالصراخة في صناعة المحتوي ورفع مستوي التحديات الصعبة واحدة تلو الأخري، ولكن للجماهير آراءٍ أخري فإنه لابد أن هذا الرجل ذو النظارةٍ داكنة يمتلك مخيلةٍ تسمح لعديد الأفلام والمصنوعات الفنية الفاخرة التي من الممكن أن تكون علي مستوي فيلم annette أو أكثر منه حتي.
1 Comment