فيلم كوستا برافا بدأ كفكرة ديستوبية لأسوأ ما قد يكون الحال عليه فى لبنان فى محاولة من مخرجة الفيلم ومؤلفته مونيا عقل لتصور شئ بعيد المدى يصعب حدوثه ليهون الحالة الحالية ولكن الواقع اللبنانى لم يكن رحيماً وسرعان ما حول الفكرة المخيفة إلى حقيقة أكثر قبحاً ليتحول الفيلم من مشروع يتحدث عن مخاوف مشروعة للحال اللبنانى إلى فيلم ينقل واقع حزين بكل أسف.
قصة فيلم كوستا برافا:
بعد سنوات من قرار عائلة وليد بالإنعزال عن المدينة وقمامتها تجد العائلة أن الدولة بدأت بتحويل الأرض حولها إلى مكب نفايات للبلاد كلها ليصبح الصراع بين البقاء والمقاومة أو الخروج والعودة إلى المنزل القديم ببيروت مرة أخرى.
https://www.youtube.com/watch?v=zQYPT9cTN2s
يبدأ فيلم كوستا برافا مع لحظة اتخاذ قرار صنع مكب النفايات بالتوازى مع تقديم أفراد العائلة الخمسة ومشاهدة التفاعلات الإنسانية فيما بينهم والتى تم تقديمها بشكل طبيعى وحميمى للغاية يُحسب للمخرجة مونيا عقل نظراً للتناغم الذى صنعته بين ممثليها لتخرج المشاهد بهذا الكم من الصدق.
بعد تقديم الشخصيات بدأت الأحداث بالتصاعد التدريجى من خلال تطور تكوين مكب النفايات والبدء الفعلى بنقل القمامة للمكان مما يتسبب بتدمير ما قامت العائلة ببنائه على مدار ثمان سنوات، ثمان سنوات من الانعزال عن كل شئ والاستمتاع بالحياة بأبسط الأدوات.
هذا التصاعد كان هاماً للإبقاء على اهتمام المُشاهد على مدار فترة عرضه والتى لم تخلُ من لحظات الملل لكنها سرعان ما كانت يتم تداركها بتصاعد جديد فى الأحداث مما جعل الرتم العام للفيلم مناسب بأغلب أوقاته عدا النهاية التى جاءت متسرعة ومفاجئة بدون مقدمات.
بين لحظات التصاعد اهتمت مونيا بتسليط الضوء على كل فرد من أفراد العائلة مستكشفة ماضيه وموضحة لأثر تدهور حياة العائلة الناتج عن أزمة القمامة التى أصبحت تحيط بالبيت وتتخلله وهذه المتابعة كانت بالكامل من منظور الأطفال فى المنزل الذين يمثلون الجيل اللبنانى الأحدث لنشاهدهم يستكشفون الماضى، يخوضون صراعاتهم الشخصية وصولاً لاتخاذهم قرارات مصيرية مع انتهاء الفيلم.
الفرد الأبرز بالعائلة كان وليد رب العائلة الحالم الصارم الذى أراد الانعزال عن الحياة وضجيجها؛ الانعزال عن بيروت ومظاهراتها وقمامتها وعيش حياة جديدة هادئة ومستقرة مع عائلته على الجبل دون أن يزعجهم أحد محاولاً صنع جنته الخاصة على الأرض.
نرى عالم وليد الحالم يتحطم تدريجياً أمام عينيه وهو مكتوف الأيدى غير قادر على فعل شئ تماماً كأيام شبابه بالمظاهرات، المظاهرات التى يأس منها وتخلى عنها بالكامل بعد أن خذلته لنشاهد أعراض صدمته تلك متمثلة فى عدم قدرته على مواجهة ذلك الواقع مرة أخرى والهروب الدائم منه مهما كان الثمن حتى النفس الأخير.
على الجانب الآخر ثريا كانت الجانب الذى يحن إلى بيروت والصخب والمظاهرات، تحن إلى حياتها الفنية حيث كانت حرة ومتفاعلة وهو ما استكشفناه بعيون ابنتها تالا التى تعيش مرحلة مراهقة وحيدة غير قادرة فيها على إيجاد نموذج أو رفيق يعيش معها نفس الوضع مما جعلها طواقة لإيجاد النموذج بتاريخ أمها أو جدتها؛ أمها التى ليست بالضرورة نادمة على قرارها بالرحيل ولكنها مازالت تحمل الذكرى بقلبها وزاد حنينها ورغبتها بالعودة مع تأزم الوضع بالعائلة ليصبح الصراع بين حبها لزوجها وبين رغبتها المتقدة للعودة إلى الحياة مرة أخرى.
رغم جمال تصميم شخصية ثريا وحقيقة أن التطرق لماضيها قدم أحد أجمل مشاهد الفيلم بواحدة من أفضل نقلات المونتاج التى شاهدتها هذا العام ولكن برأيى كانت تحتاج الشخصية إلى تعمق أكبر بشخصيتها وتاريخها بدلاً من الوقت الذى تم توفيره لصراعات مراهقة تالا والذى برغم جودته بحد ذاته إلا أنه بالإمكان الشعور بأنه جزء غريب عن باقى أحداث الفيلم.
نشاهد فى الأطفال تالا و ريم نتيجة قرار الانعزال عن الحياة فلدينا تالا التى تعانى مع مرورها بفترة المراهقة ورغبتها الطبيعية للانفتاح والخروج التى تواجهها صرامة أبيها، و ريم التى ورثت من والدها خوفه ورهابه من الخروج والعودة إلى الناس مرة أخرى وبشكل عام شخصية ريم كانت هامة ليست كمجرد طفلة ولكنها كانت بوصلة لشخصية الأب وصاحبة المنظور الأهم بالأحداث.
للمفاجأة فتجسيد شخصية ريم قام به التوأم سينا وجينا ريستوم الذى يقف أمام الكاميرا للمرة الأولى ورغم ذلك كانت أحد أفضل التجسيدات بالفيلم فحملت على عاتقها بالكامل الجانب الكوميدى من الفيلم و كان لديها مواقفها وصراعاتها النفسية التى جُسدت ببراعة ممثل محترف كما أن ثنائيتها مع صالح بكرى كانت جميلة ومليئة بالمشاعر.
مونيا عقل قدمت تجربة إخراجية رائعة تميزت بكثير من جوانبها خاصة التصوير الذى تنقل بين الكاميرا الثابتة والمحمولة على الكتف حسب حالة المشهد، الإضاءة التى كانت تخفت تدريجياً لتصبح الصورة أكثر قتامة مع تقدم أحداث الفيلم وتفاقم الوضع، وكذلك توجيه الممثلين الذى أخرج منهم أفضل ما يمكن سواء من الثنائى المحترف فشاهدنا أحد أفضل أداءات نادين لبكى فى شخصية قريبة بكثير من أبعادها بنادين نفسها وكذلك صالح بكرى الذى لمع بالفصل الأخير فقدم به انكسار صامت ومؤلم لأقصى درجة.
اقرأ أيضاً: “كفرناحوم ” معاناه تستحق الاوسكار .. مراجعة فيلم كفرناحوم
إشادة خاصة لفريق المؤثرات البصرية بالفيلم لجودة تنفيذه لمشاهد القمامة حول البيت حيث تم تصوير تلك المشاهد فعلياً بمكب نفايات حقيقى ولم تكن بالفعل حول البيت.
الرؤية العامة لفيلم كوستا برافا أيضاً جميلة رغم ما فيها من حزن واضح فهى فى النهاية قصة حلم جميل يتحول إلى مكب نفايات إلا أنها مازالت تحمل بصيصاً من الأمل فى الجيل الجديد والشعب اللبنانى ككل.
كوستا برافا هو تجربة سينمائية جميلة حزينة وصادقة بالتأكيد ليست مثالية لكنها تعد تجربة أولى واعدة لمخرجته مونيا عقل التى قدمت تجربة سينمائية مثيرة للإهتمام نجحت فى حصد الجوائز بمختلف المهرجانات عن استحقاق مما يجعلنا نترقب بشغف ما هو قادم لها من أعمال.