مراجعات

مراجعة فيلم الكيف – جرس إنذار لإنقاذ الذوق العام

فيلم الكيف

مراجعة فيلم الكيف

“إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فى عصر فُقدت فيه القيم و انحلت به الأخلاق تم تقديم تجربة فنية تحاكى العصر و تطلق جرس إنذار شديد اللهجة للشعب الذى يستمر بالإنحدار دون توقف عسى أن يكون سبباً فى منع سقوطه إلى الهاوية دون أن يبقى مجال للتراجع .

قصة فيلم الكيف :

تدور أحداث فيلم الكيف عن دكتور صلاح أبو العزم الكيميائى الذى يستطيع صنع خلطة غير ضارة تشبه الحشيش مصنوعة من مواد عطارة و تقديمها لأخيه جمال “مزاجنجى” المطرب فى الأفراح الشعبية فى محاولة لإقناعه بالإقلاع عن تعاطى الحشيش و لكن تأخذ الأمور منحى آخر عندما يصل المٌنتج إلى أحد كبار تجار المخدرات .

https://www.youtube.com/watch?v=_YnCj_8Q6M8

سيناريو الكاتب الكبير محمود أبوزيد كان عبقرياً و يمكن للعين المجردة لا المُدققة أن ترى ذلك بوضوح و لكن من أجل الخوض فى تفاصيل السيناريو و الحوار فلابد من تقسيم سيناريو الفيلم إلى أربعة فصول .

يبدأ الفصل الأول بإخراج صلاح لأخيه جمال من التخشيبة و مواجهة صفات أخيه المتدنية و من خلال عدد بسيط من المشاهد استطاع الفيلم تقديم شخصياته و توضيح أبعادها و عاداتها اليومية بشكل ممتاز و سريع حتى نصل إلى نقطة التحول و هى لحظة اتخاذ صلاح قراره بأن يصنع نسخة شبيهة لقطعة الحشيش التى حصل عليها من جمال ليثبت وجهة نظره له عملياً بأن المخدر ما هو إلا وهم فى عقله فقط و يقنعه بالإقلاع عن الحشيش .

فى هذا الفصل نرى الكثير من الحوارات التى يظهر فيها صلاح براية الفضيلة و الأخلاق و القيم مواجهاً جمال الذى يقدم له الواقع الموحش و الملئ بالإنحلال و الإسفاف و الهبوط ؛ نقطة التميز الكبرى بهذه المشاهد الحوارية تكمن فى جعلك أنت كمشاهد حالك كما هو حال صلاح لا يستطيع الرد مع كل هجوم يشنه جمال حاملاً بيده الواقع بصعوباته و انعدام العدل فيه مما يجعل جزءاً منك و لو كان قليلاً يتفق مع جمال و هو ما سنشاهد أثره لاحقاً .
يُحسب للفيلم صناعته للغة جديدة مختلفة و التى أطلق عليها جمال “لغة العصر” و هى لغة ذات كلمات بلا معنى و لكن بذكاء استطاع المخرج على عبدالخالق استخدامها فى كل مرة بسياق تتحول فيه إلى لغة مفهومة و ذات معنى بشكلٍ أو بآخر .

الكيف - محمود عبدالعزيز

يبدأ الفصل الثانى من فيلم الكيف مع نجاح جمال فى بيع خلطة صلاح بسعر ألف جنيه مقابل الكيلو الواحد ؛ سعر حوله إلى كلبٍ مسعور يطالب بأموال أكثر لتبدأ رحلة إقناعه لصلاح لكى يصنع المزيد من خلطته مقابل هذا الكم الهائل من المال .
فى صراع الخير و الشر و الحق و الباطل تكون الأمور غالباً واضحة و لكن لم يجعل محمود أبوزيد الأمور كذلك فموقفنا هنا ليس الإشتراك فى تجارة المخدرات و لكن بيع شئ نافع فى صورة الشئ الضار و كأنه علاج للناس على حد وصف جمال للأمر .
فى هذا الفصل تحولت دفة الحوار بالكامل لمحمود عبدالعزيز ليقوم بكل ما فى الإمكان لإقناع صلاح من استعانة بكل ما تعلمه من سنين حياته الضائعة بكلية الحقوق إلى استخدام المنطق بل و استخدم الكوميديا أحياناً كسلاح ؛ حوارات كانت فريدة و مميزة و مقنعة للمُشاهد نفسه و هو ما جعل المُشاهد فى حالة من الإرتباك ليختلط الصواب و الخطأ أكثر و أكثر و يصبح التفريق بينهم شيئاً بالغ الصعوبة .فيلم الكيف

ينطلق الفصل الثالث من فيلم الكيف مع موافقة صلاح على التجارة و صنع المزيد و المزيد من خلطته و بيعها لنشاهد أثر الأموال عليه و سعادته الغامرة بها و نشاهد بنفس الوقت تدهور حياته الزوجية تدريجياً ، شاهدنا كذلك جمال و هو يقوم بالتحضير لألبومه القادم إلى الأسواق و شاهدنا تركيز المخرج على عبدالخالق على تدنى الذوق العام و تدنى ذوق جمال نفسه و كيف تعامل مع المؤلف الذى قدم له أغنية ذات معنى و بدلاً عن ذلك اختار أغانى “الكيمى كيمى كا” و “تعالى تانى” و “يا قفا” .
تركيز الفيلم على شريط الأغانى و كلماتها و التى على حد الوصف فى تتر الفيلم من تخريف الكاتب محمود أبوزيد يدل بشكل واضح و مُعلن أن الفيلم ليس عن المخدرات و إنما هى مجرد وسيلة للوصول إلى فكرة الفيلم الحقيقية التى تم بروزتها بالفعل عدة مرات و من سخرية القدر أن هذه الأغانى لاقت رواجاً جماهيرياً كبيراً بعد صدورها مع الفيلم.

تستمر التجارة بنجاح حتى ينجح المُنتَج فى الأسواق و تتزايد الطلبات عليه فيطلب زعيم تجار المخدرات البهظ حضور جمال لطلب دفعة كبيرة و على الجانب الآخر يكتشف صلاح أن تجار المخدرات أضافوا إلى خلطته الأمفيتامينات و التى تؤدى إلى إصابة الناس المؤكدة بسرطان الرئة بالإضافة لتلف خلاياهم العصبية بشكل أسرع لينتهى الجدل و الصراع و يصبح الباطل واضحاً و لكن الوقت كان قد فات و وقعت الفأس بالرأس بالفعل

.فيلم الكيف

فى الفصل الرابع تنقلب أجواء الفيلم من الكوميديا و الهدوء إلى أقصى مراحل السوداوية و التراجيديا و ذلك بعد تعذيب جمال و تسليمه لأخيه صلاح و بعد حوار بمنتهى القوة ينتهى ببصق صلاح على وجه البهظ يقرر البهظ أن يضع نهاية للمهزلة ليقدم أحد أكثر النهايات مأساويةً فى تاريخ السينما المصرية بإعطاء جرعة من الهيروين و الكوكايين لصلاح كل ثلاث ساعات ليتحول فى أقل من يوم إلى مدمن غير قادر على المقاومة مُقَبّلاً أقدام البهظ من أجل جرعة تعيده إلى الحياة و تزيل عنه ألماً لا يُحتمل .

ينتهى فيلم الكيف بإدمان صلاح و توبة جمال التى أتت متأخرة بعد أن انتهى كل شئ و رحل صلاح الذى يعرفه إلى الأبد و لكن ليس فقط لهذا السبب تعتبر هذه النهاية عظيمة بل و عبقرية و لكن كان للتركيز على فكرة الفيلم الرئيسية و التى جسدها صلاح بجملته الأخيرة “اتعلمت اللغة”

فيلم الكيف

لم يكتفى الفيلم بهذا المشهد السابق كمشهد نهاية بالرغم من كونه كافٍ لأى فيلم يتحدث عن مخاطر المخدرات و الإتجار بها و لكنه يقرر أن يختم الفيلم بنفس المشهد الذى شاهدناه بالبداية مسبوقاً بكادر واسع لشوارع القاهرة للتعميم و نشاهد أغنية مزاجنجى “الكيمى كمى كا” و التى على نفس وزن الأغنية التى سمعناها بالبداية “البلى بلى بو” لنحصل على نفس رد السواق “انا برده اول ما سمعتها مدخلتش دماغى بس لما ودنى خدت عليها عششت فى نفوخى و كيفتنى” أكثر جُمل الفيلم تميزاً و عبقرية و سر عبقريتها أنها كلمة السر لكل أحداث الفيلم فعندما ندقق النظر قليلاً نجد أن هذا ما حدث مع صلاح عندما طلب منه جمال الإشتراك معه فى التجارة و صنع الخلطة فبدأ بالرفض القاطع و لكن مع كثرة الكلام و تعدد مرات الطلب وافق بالنهاية .
جملة تتماشى مع كل شئ فى الفيلم بل و فى الحياة و قد أراد أن يقدم على عبد الخالق مشهداً يلخص ذلك و كان مشهد العزاء الذى يمكن وصفه من المشاهدة الأولى بكونه مشهد كوميدى بحت من الطراز الأول و لكن عندما نعيد النظر إلى موقف الناس فى العزاء نراهم يستنكرون ضحك صلاح فى البداية ثم يعتادون عليه حتى يشاركوه الضحك فى النهاية و هذا ما نراه يومياً بل و نفعله مما أدى لإنحدار الذوق العام للمجتمع كاملاً .

فيلم الكيف

نعم القضية هنا ليست المخدرات على الإطلاق و لكنها قضية أخلاق و قيم ، قضية تمسك بالمُنتج الجيد و الإقلاع عن السئ بدلاً من الإعتياد عليه و تحوله إلى المنتج الرائج و الأكثر نجاحاً و انتشاراً و هو ما نعانيه اليوم فى الأغانى و السينما و شتى مجالات الحياة المختلفة .
اقرأ أيضاً: صفات جعلت من محمود عبد العزيز الساحر في السينما المصرية
الموسيقى التصويرية للرائع حسن أبو السعود كانت جميلة و معبرة عن حالة الحسرة و الحزن المسيطرة على الفيلم و استخدامها كان متميز تحديداً بمشهد النهاية .

الأداء التمثيلى كان ممتاز من الجميع خاصة ثلاثى البطولة جميل راتب مُجسد جانب الشر فى الفيلم و الذى استطاع أن يُقنع و يُبدع بأداءه ، كذلك يحيى الفخرانى الذى استطاع تقمص دوره بحرفية شديدة و نقل اضطراب شخصيته و اقتناعه المتدرج بفكرة أخيه ثم تجسيد الحسرة على النهاية الوخيمة ليختتم الفيلم بأداء تراجيدى رائع .

فيلم الكيف
ننتقل إلى دور مزاجنجى الذى أزعم أن الوحيد القادر على إخراج هذه الشخصية على الشاشة بهذا الشكل هو محمود عبد العزيز فى أداء جمع ما بين الكوميديا و الانفعال و الخطب الطويلة المُعقدة و الغير مُباشرة بالإضافة إلى التحول الشامل إلى التراجيديا فى الفصل الأخير ليقدم أداء يتفوق به على الجميع برأيى و تتحول شخصية مزاجنجى و افيهاتها إلى شئ خالد يعيش معنا إلى الآن .فيلم الكيف


التجربة الإخراجية كانت مميزة بكل تأكيد فلقد استطاع على عبد الخالق تحويل سيناريو محمود أبوزيد الرائع إلى تجربة مرئية ممتزجة بشدة مع أفكار السيناريو فرأينا الرمزيات تظهر أمامنا من حين إلى آخر مُدَعِمة فكرة الفيلم و فلسفته .

اقرأ أيضاً: الحريف – قاهرة الثمانينات بعيون محمد خان

سلبيات الفيلم تتمثل بشكل أساسى فى المونتاج و المكساج الصوتى اللذان كان حالهما كحال أغلب الأفلام المصرية بذلك الوقت ففى مشاهد الغناء كانت مشاكل المكساج الصوتى تصبح أكثر ظهوراً .
سلبية أخرى تتمثل فى التنقل من مكان إلى آخر أثناء الحوار الواحد و بدون أى مبرر و يحدث ذلك فى أكثر من مشهد حوارى و هو ما أثر بالسلب على المشهد .

“عودتوا الناس على الوحش لحد ما نسوا طعم الحلو”

فى النهاية أود أن أختم المراجعة بتساؤل جعلنى الفيلم أطرحه على نفسى بعد انتهائه و هو ببساطة على من يقع اللوم ؟ أهى سذاجة المُتلقى أم رداءة الصناعة ؟ أهو ذلك الذى تساهل حتى استساغ ما يُقدَم إليه بغض النظر عن الجودة ؟ أم أنه الصانع الذى استسهل و أجبر الجميع على التدنى حتى اعتادوا عليه ؟

محمد هشام
كاتب بموقع بيهايند و طالب بكلية الطب جامعة عين شمس من مواليد المنصورة، محب للسينما وكرة القدم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *