نبدأ مراجعة فيلم The Devil All the Time بحقيقة انه تتشكل حياة الفرد بالقيم التي تعد عصب سلوكه الوجداني والإجتماعي والعنصر الهام في تكوين شخصيته الفردية وتحديد أهدافها، يأتي ذلك إلي جانب كونها الطريق الأمن للإصلاح النفسي والأخلاقي حتي لا تتغلب مطامع الإنسان وشهواته علي ما يجب فعله وتنتصر بداخله مبادئ الخير وحب الفضيلة وكل ماهو حميدٌ من الأخلاق.
لكن الإنسان قد خلق ضعيفا يتأثر حتي بنسمات الهواء العليل،فعندما تتشابك عديد المواقف بكل ما تحويها من سلبيات وإيجابيات، تكسبه تلقائياُ طباعً مغايرة عما كان عليه سابقاً، منها ما قد يزيد يقيناً بضرورة التآسي بترك المنكرات وفعل الخيرات، ومنها ما تجعله فريسةً لوسوسة التحلي بكل ما مرفوض إجتماعياً ودينياً تبعده عن ربه الذي خلقه ويسر له المعيشة والتنعم بخيراتها، وتفقده إحترام الناس ومحبتهم كليتاً ودون رجعة.
اعلان فيلم The Devil All the Time
بتوازن قصصي وفلسفي يطلق العنان لرحلة سينمائية من العيار الثقيل، يقدم المخرج والمؤلف “أنتونيو كامبوس” في فيلم The Devil All the Time شكلأً من أشكال الدراما التي تلعب علي أوتار الإحتقان النفسي وتبدل القيم والدوافع الخاصة والشيطنة التي تميت العقلانية بدواخل البشر، رحلة صدر من خلالها “أوكامبوس” طاقم تمثيلي رفيع المستوي كي يصنعوا شبكةً من الترابط تتأثر من خلالها حيوات بعضهم بأفعال البعض الأخر حتي ولو لم يلتقوا وجهاً لوجه مطلقا، ويدقوا بطريقةً غير مباشرة أجراس أنظارٍ شديد اللهجة أن للشيطان أتباعٌ يقومون بواجبه في كل الأوقات وما أكثرهم علي مدار الزمن.
مراجعة فيلم The Devil All the Time
تدورأحداث فيلم The Devil All the Time في “نوكميستيف” بولاية “أوهايو” من خلال مجموعة من الشخصيات القاطنين بأرجاء تلك البلدة الصغيرة، حيث نري جندي محارب يدعي “ويلارد راسل” وإبنه الصغير “آرفين” داخل دوامة من المناجاة الدينية والتضرع الدائم للأله لعل القدر يبتسم لها ويمنع أزمةٍ ما من التفاقم، ونري أيضاَ التحول الكبيرل”ويلارد” الذي عاصر ويلات الحرب وأصيب بإضطرابٍ كبير قتل في جوانحه السلام النفسي وآل به إلي طريقة العنف والغلظة.
ثم تتبلور الأحداث في فيلم The Devil All the Time وتتبع توابع أفعال الإثنين خصوصاُ بعدما كبر “آرفين” في السن ورصد بأعينه عديد المفارقات التي لا يصدقها العقل ولا يقبلها ذو الحكمة والدهاء، ليُترَكوا أمام خياراتٍ عديدة تغيرهم للأبد ويصبح حيوات من يحبونهم معلقة في الميزان بين تجنب الوقوع في الخطأ وبين فعله عن قناعة تامة.
ما يميز السيناريو هو فرض حالة من التوازن بين عرض الفكرة بشكلٍ مباشر وإرثائها عن الطريق الرواية السينمائية، “أنتونيو أوكامبوس” قد خطط بطريقةٍ مثالية للقصة عن طرح تسلسلٍ يخص أحد الشخصيات كتمهيد أساسي لمضمونها ثم يتبعه بآخرٍ ينتسب لشخصيةٍ أخري، ثم تتوالي الأحداث بإرتباطٍ مناسب بين حكاوي تلك الشخصيات وصولاً لخط النهاية وبسلاسةٍ في الطرح من أجل مساعدة المتلقي علي فهم المغري من الفيلم بوضوح أو عن طريق السرد المشهدي.
تمثل ذلك في إتباع أسلوب الراوي الذي نتتبع معه أحداث الفيلم بمرورها علي جميع الشخصيات، حيث يأتي في وسط المشهد ويقرب الجميع أكثر فأكثر مما يحدث نظراً لزخم القصة علي مستوي التفاصيل وإعطائها لكل تفرعٍ منها وقتاً كبيراً للولوج إلي المشاهد بطريقةٍ قابلة للتصديق، ربما يعب الفيلم فقط عدم تهيئة علامات دالة علي التحول الزمني من عامٍ إلي عامٍ آخر سواءاً من ناحية تغير معالم البيئة المحيطة بالشخصيات أو حتي علي مستوي المكياج الذي يعتبر عاملاً رئيسياً في شفافية تلك النقطة بالتحديد.
بالنظر لمحتوي فيلم The Devil All the Time ، فما يرويه لا يثير الجدل علي الإطلاق أو يقدم إسقاطاتٍ علي حدثٍ معين يرتبط الواقع الذي يعيشه البشر، بل هي ترتكزعلي معضلاتٍ أخلاقية تحدث بالفعل وبيان آثارها التي دائماً ما تكون سلبية نتيجة حالة التوهان والتوتر الداخلي التي يزلزل كيان الفرد زلزالاً شديداً دمر أسمي معاني الإنسانية والطيبة التي يفتح الأله لمعتنقها أبوابٍ كثيرة من الخير الذي لا يمكن لعقله أن يتخيله.
هنا فيلم The Devil All the Time يدشن المساحة الازمة لبيان عواقب كل طريقٍ شائك يسلكه الشخصيات سواءاً أكانو علي جانبٍ وتحولو بعضه، أو كانوا سفراءاً للشر مدعيين للفضيلة وهو منتهكي كل ما هو منكر من الأفعال (مثل شخصية القس “بريستون” الذي جسدها “روبرت باتينسون” و”كارل” المصور المضطرب جنسياُ الذي أتقن تقديمه “جيسون كلارك”).
كما إعتمد “أوكامبوس” علي ترسيخ مفهومٍ آخر ومختلف للفكرة يسلط الضوء أيضاً علي إحدي الخيطٌ الرفيعة التي تكمن داخل الأحداث أدرجه “أوكامبوس” لفهم إحدي شخصياته (لن يتم الخوض في تفاصيل لتجنب الحرق) ، وهي فكرة الضلالات وأن ليس كل شخص يدعي المثالية قابل للتصديق، وأن ليس كل واحدٍ إستهواه الشيطان لإرتكاب المعصية يرغب بالإستمرار في ذلك.
وتستمر تلك الضلالات في السيادة داخل أحداث فيلم The Devil All the Time ، مما يتيح للمشاهد إستيعاب الفيلم بصورة مختلفة وطرح تساؤلاتٍ عدة داخل صلب الفكرة ذاتها من أجل الوصول إلي مرحلة التواصل مع ما يرمز له الفيلم بسهولةٍ ويسر، فتحيةٌ ل”أنتونيو أوكامبوس” الذي نسج خيوط قصةٍ متماسكة مثيرة للإهتمام في كل عناصرها وحاضنة لمتلقينها منذ بداية الفيلم وحتي آخره.
ولأن قصة فيلم The Devil All the Time تعتمد في أساسها علي شبكة من الشخصيات عبارة التي تترابط مع بعضها البعض في آوانٍ كثيرة ، احتاج الفيلم إلى فريق تمثيلي بارع يمكنه نقل الحدث وتوصيفه بأدق طريقةٍ ممكنة، بالرغن من أن البعض يتمتع بعمق أكبر في الأحداث عن البعض الآخر ، إلا أن الفيلم أحتاج أن يكون الجميع في أوج عطائه وهذا ما حدث بالفعل، فعل سبيل المثال نجح الثنائي “بيل سكارسجارد” و”هالي بينيت” في عكس أجواء المنزل الملئ بالحب والسلام في البداية وصولاً للتحول الذي طرق علي شخصية “سكارسجراد” ونجح هو في نقله بإمتياز متماشياً مع تغير إيقاع الأحداث ذاته من حيث الإنفجار العاطفي واليأس والخوف من الخسارة التي لا ينتظر عدالة السماء لإيقافها وعدم حدوثه، أداء مثالي ل”سكارسجارد” يضاف إلي ما قدمه من قبل في دور “بينورث” في ثنائية “It”.
شكل أيضاً “جيسون كلارك” و”رايلي كيوبرينغ” ثنائي شرير أو شيطاني إن صح التعبير وتميزا أيضاً بأدائهما لقاتلين متسلسلين في ذروة حياتهما معاً، بالرغن من محدودية الوقت الخاص بهم علي الشاشة ، فإنهما كانا قادران على عرض النمو أكثر وأكثر مستفيدين من براعة الحوار والكتابة المثالية لكلتا الشخصيتين.
بالتأكيد ستسلط الأضواء علي الثنائي الشاب “روبرت باتيسنون” و”توم هولاند” خاصةً أداء الأخير والمختلف تماماً عن كل ما هو “بيتر باركر”، ربما من الصعب التفكير في مثل هذا الأداء الصعب والدسم بالتعبيرات والإرتجال الإنفعالي المثاليو من فتيٍ صغير يمتاز بخفة الظل والعفوية في التجسيد عرف بها منذ إنطلاقته في السينما في الأونة الأخيرة، ولكنه نجح في تعزيز قدرته علي تقديم مختلف الأدوار في مختلف النوعيات السينمائية مهما بلغت صعوبتها وحجم تحدياتها التي جعلته جدير بثقة مخرج يقدم فيلماً مثقل في الشق الدرامي.
علي الجانب الأخر يقدم “روبرت باتينسون” شكلاً مختلفاً لم يظهر به من قبل، فتي شاب يدعي الفضيلة وهو في الأصل شيطانٌ وسيم الملامح يستسهل إيقاع الأبرياء من أجل نزواته الشخصية، أداءٌ يتوق إلى ثقة المشاهد ويغريه إلى الشعور الزائف بالأمان الذي يوفره ولكن بتحولٍ مثالي في القصة ولهجة “باتينسون” في إلقاء الحوار وأداء نوعاً من الحركة الجسدية التي تثير القلق، يتضح أنه هو في الأصل نموذج للشر المطلق والناضج علي المستوي الفكري والفعلي، فمرةً بعد مرة يثبت “باتينسون” أنه نجمٌ بارع نجح في الخروج من عباءة “Twilight”، وتقديم باقة من ألمع الأدوار الي أدت به لخوض واحداً من أصعب الإمتحانات افي السينما وهي أداء شخصية “الرجل الوطواط”.
في ختام مراجعة فيلم The Devil All the Time يبقي لأفلام الدراما التي بمقدورها تسوية الجانب الفلسفي بالرواية السينمائية مفعولٍ خاص وتأثيرٌ كبير علي المشاهد العاشق لأفلام “السينما الواقعية” التي تعتبر من أكثر المدارس إتصالاً بشريحة عريضة من الجمهور نظراً لكونها تمثلهم وتمثل لهم كحال فيلمنا هذا الذي قدم وصفاً دقيقاً للجوانب السلبيية في البشر وتأثيراتها فيما بعد، فالفيلم يعتبر مادة سينمائية تضاف لرصيد تلك النوعية عن جدارة، والأهم من ذلك هو الإتعاظ منها، فهي ليست سبيل للمتعة فحسب
بل هي كحال فيلم Joker جرس إنذار سينمائي للهجة لمن تحركه دوافعه للبعد عن الحق والإمتثال لنفسه الإمارة بالشر.