قبل ان نتحدث عن فيلم I’m Thinking of Ending Things ، لابد ان نتكلم عن تشارلي كوفمان، فهو من كتب النصوص السينمائية لرائعتين من روائع “هوليوود” الذهبية “Being John Malkovich” و” Eternal Sunshine Of The Spotless Mind”، هذا الفيلمان على وجه التحديد رسخا معالم سينما “كوفمان” التي تعتمد في الأساس علي رمزيات الاضطراب النفسي وفقدان الهوية والموت وغيرها من العناصر يقدمها “كوفمان” داخل إطارٍ سردي يوازن بين الجانب الإنساني ونظيره الخيالي أو العلمي وخلافه لا يجعل المشاهد يعاني من أية صعوبة في فهم معطيات الفيلم وما يرمي إليه من إسقاطات وما شابهها.
مدرسة سينمائية لها من التقدير والإحترام ما تستحقه، نهجٌ مكن الجميع من حفظ تفاصيل أفلامه والحديث عنها بشكل مستمر داخل الأوساط السينمائية بإستمرار، من منا لا يعرف حتي الآن مشاهد فيلم”Eternal Sunshine Of the Spotless Mind” ويتذكرها بمفرداتها وحواراتها وتفاعل النجمين “جيم كاري” و”كايت وينسلت” وهي التي مر عليها ما يقارب ستة عشر عاماً منذ عرضها الأول سينمائياً، ولذلك ينظر إلي “تشارلي كوفمان” علي أنه من مبدعي السينما الحديثة وأحد القادرين علي تقديم حبكة أصلية بما تحويه الكلمة من معني موزونة سينمائياً ومعبرة علي مستوي الرسالة المراد تقديمها.
مراجعة فيلم I’m Thinking of Ending Things
لذلك كان الترقب كبيراً لإحدث أفلام “كوفمان” علي شبكة “نيتفليكس” بعنوان “I’m Thinking Of Ending Things” الذي يعود به بعد غياب خمس أعوامٍ كاملة بصحبة موهبتين من المواهب الشابة القادمة بقوة في سماء “هوليوود” وهما “جيسي باكلي” و”جيسي بليمونز” بجانب أصحاب الخبرة والباع الطويل في السينما “توني كوليت” و”دافيد ثوليس”، خصوصاً أن إعلان الفيلم جاء مبشراً بتجربة قد تحمل معها الكثير من عوامل الإثارة والجوانب النفسية كما عودنا “كوفمان” وتقتحم نفوس الشخصيات الذين يعتبرون سفراء المشاهد داخل حبكةٍ تلعب علي عنصر الشك والريبة من الظواهر المحيطة بها وتتعامل معها أملاً في تغييرٍ ما أو نجاة من عواقب تلك الأمور.
ولكن هذه المرة لم تكن قرارات ” تشارلي كوفمان” موفقة على الإطلاق، لا علي سبيل إختيار العمل الذي تم الاقتباس منه أو الإيقاع أو ترابط القصة بكامل عناصرها، للعام الثاني على التوالي يتوارى مخرجين من خيرة صناع الأفلام “كوينتين تارنتينو” في “Once Upon A Time In Hollywood” و”تشارلي كوفمان” هنا خلف قصصٍ يصعب روايتها سينمائياً وتختلف في الشكل والمضمون عن ما قدموه سابقاً، جملةٍ قد تغضب البعض ولكنها حقيقة مبنية عن دراية حقيقية بأسلوب الإثنين وثناءٍ مستمر ومنقطع النظير على إسهاماتهم السينمائية التي لا يمكن أن يختلف عليها أحد وخيبة أمل من ابتعادهم عن ما هو معروفٍ عنهم.
تدور أحداث فيلم I’m Thinking of Ending Things عن فتاة شابة تدعى “لوسي” تذهب مع حبيبها “جايك” في رحلة بسيارته إلي منزل والديه، ولكن بمجرد وصولهم إلي هناك يختلط الواقع بالخيال وتبدأ شخصية “جايك” في الوضوح بشكلٍ أكثر ويتم الكشف عن عذابها النفسي وظلامية نفسه المحطمة.
يدعي البعض أنه يسهل معرفة ما كانت أحداث فيلم I’m Thinking of Ending Things حقيقية أو من وحي الخيال منذ الوهلة الأولى، ولكن ذلك الكلام لا يبدو منطقياً علي الإطلاق، فقد أثقل “كوفمان” فيلمه بمحادثاتٍ حوارية عميقة متتالية قد يحدث فقدانٍ للتركيز على مجريات الأحداث وما ترمز إليه الفكرة، وتتوالى اللقطات واحدةً تلو الأخري دون أدنى تفاعلٍ معها أو تعاطفٍ مع الشخصيات وإدراكٍ لأفعالها وما ترتكبه من تصرفات وإنفعالاتٍ مثيرة للغرابة.
المشكلة الكبرى تكمن في فقدان القصة لذلك التوازن الذي تعرف به أفلامه بين العنصر الخيالي الذي يكون تارةً علمي أو هزلي وبين العنصر الإنساني الذي يطلع على طبيعة الإنسان والصراع النفسي الذي يدور بداخله،ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه هو عن جدوى صب التعقيد بكثرة على القصة لا يوجد ما يبرر تحويل مادتها الأصلية إلي عمل سينمائيٍ أم لا وتبتعد كليتاً عن النهج المذكور سلفاً والذي يحبه الجميع ويقدره، لو صففت عزيزي القارئ أفلامه السابقة بجانب “I’m Thinking Of Ending Things” من أجل إختيار من هو أفضل فيلم ل”كوفمان” لهاوت كفة فيلم “نيتفليكس” بلا أي داعيٍ للجدل في هذا الأمر.
بجانب ذلك، يتداخل خط أحداثٍ آخر مع الخط الرئيسي وكأن الفيلم ينقصه المزيد من التعقيد، بل وتتزاحم مع الفيلم عوامل أخرى منها كرتونية ومنها استعراضية، وكل ذلك تائهٌ في غيابات الخيال لا منه يجيب علي التساؤلات أو حتي يعزز قابلية الفيلم الشخصية، من الجيد تناول عديد القضايا الإنسانية مثل فقدان الإنسان للشغف والإحساس بالوحدة وعدم المساندة وتسارع الوقت تزامناً مع التقدم بالعمر فنكتشف أن الأوان قد فات على الإستمتاع بشئ و الصعوبات التي تواجه العلاقات الثنائية بما تتضمنه من تفكيرٍ مستمر فيها سواءاً بالسلب أو الإيجاب، ولكنها تفاصيل محورية بالرغم من مروقها بإنتشارٍ واسع داخل أحداث الفيلم، إلا أنها تفتقد الطريقة الصحيحة للظهور بما يسهل علي المشاهد استنتاجها بوضوح.
وبمجرد الوصول إلي خط النهاية تتضح معالم الفكرة قليلاً، نعم قليلاُ لأنه كان لا يزال يعبث كوفمان أكثر فأكثر بحواره وإستعراضه المبالغ فيه بأسلوبٍ غير مفهوم، لتنطفئ نهائياً شمعة الترقب الكبرى للفيلم بعدما كان واحداً من أكثر الأفلام إنتظاراً على المستوى الشخصي هذا العام نتيجة القرارات الخاطئة ل”كوفمان” الذي يعتبر الجانب الأكبر علي الفيلم على المستوى السردي.
لأنه بالحديث على المستوى الإخراجي، فالوضع أفضل بكثير ويغطي ولو بالقليل على عيوب السيناريو والقصة ككل، فاللغة التصويرية للفيلم بديعة على مستوى اختيار الكادرات وزوايا التصوير، مزيجٌ ساحر بين لقطات ” Medium Wide Shots” الواسعة و نظيرتها القريبة “Close-ups” خصوصاً تلك التي تم الإتكاء عليها في المحادثات بين شخصيات الفيلم بالإضافة إلي لقطة تأسيسية “Establishing Shot” مميزة تم تقديمها في بداية فيلم I’m Thinking of Ending Things ، حتى الجانب الاستعراضي الذي أدرجه “كوفمان” دون أية جدوى بالفيلم تم تصميمه على درجة عالية من الإحترافية، فيمكن القول أن “كوفمان” المخرج تفوق بكثير علي “كوفمان” الكاتب وما عهدنا “كوفمان” إلا داهية في كلا الجانبين.
حتى بالنسبة لأدائات التمثيلية، الكل كان على قدر الثقة التي أعطاها لهم “كوفمان” لمشاركته حلمه المعقد هذا، “جيسي باكلي” صاحبة الأصول الأيرلندية وجه سينمائي جميل بارع على مستوى التعبيرات الوجهية وقادر علي مجاراة نظيرها في الحوار والتفاعل بشكل مناسب مع الظروف المحيطة بها، “جيسي بليمنز” هو الأخر يفاجئ الجميع بمستويً أفضل في كل مرةٍ يطل بها علي الشاشة، حيث أنه نجح في عكس الحالة النفسية للشخصية والإنكسار الذهني والمعنوي الذي يمر به تماشياً مع يدور حوله.
فتلك الصرامة مخيفة بالفعل لم يظهر بها “بليمنز” من قبل ونجح في إبهار الجميع بها ولا يستبعد ترشحه لأوسكار أفضل ممثل رئيسي إن تم عمل الدعايا الازمة لترشجيخ للجائزة ألأهم في صناعة السينما، يأتي ذلك إلي جانب الظهور المميز والمعتاد من قبل القيدومة “توني كوليت” و”دافيد ثوليس” الذان تمكنا من تقديم عدة أنماط تجسدية نظراً لتعدد أبعاد شخصياتهم في الفيلم، ربما لم يخطفا الأضواء كحال “باكلي” و”بليمونز”، لكن لا يمكن التغاضي عن الشكر في حضورهما المهم و المحوري ضمن سياق الأحداث.
في الختام، افتقد فيلم I’m Thinking of Ending Things لخصائص سينما المخرج “تشارلي كوفمان” وكان بمثابة العودة الغير مثالية للرجل الذي قدم من قبل عديد الأفلام التي تعتبر مرجعاً لأي صانع سينما واعد، فمدرسة “كوفمان” فريدة فيما يخص الشق السردي وتوافقه مع أي عنصرٍ أخر، لكن الخلل بذلك التوازن تسبب في فقدان الفيلم لأية فرصة للدخول إلي قائمة أفضل أفلام تشارلي كوفمان بشكل خاص ونظيرتها التي تجمع خيرة الأفلام الدرامية في الأعوام الأخيرة المنقضية.
1 Comment