لقد ظن البعض بأن “إبراهيم عيسي” أخطأ بخوض غمار العمل السينمائي عقب انتهائهم من مشاهدة فيلميه الأخيرين “مولانا” و”الضيف”، والذي أثار من خلالهما الجدل كعادته وقت عمله بالإعلام وطرحه ضمن سياقها لعديد القضايا التي لا يستحب الخوض في مناقشاتٍ وجدالاتٍ حولها، فما قدمه “عيسى” بهما جعله ينسى أنه ليس في برنامج “التوك شو” الخاص به الذي يصيح فيه كما يحلو له ويتحدث بلغةٍ معارضة عن عدة مواضيع سياسية ودينية.
مراجعة فيلم صاحب المقام
فقد تغافل “عيسى” عن أهمية القصة في أي فيلمٍ تم تقديمه منذ إشراقة العالم علي الفن السابع،لم يعطي للدراما أو السيناريو إن صح التعبير أية أهمية، وقضي غالبية الوقت في حشر أرائه واحداً تلو الآخر مثبتاً إياها بالحجة والبراهين متخطياً حاجز التوازن بين عنصري أية عملٍ فني بطريقةٍ صارخة حوارياً قلما تجد طريقاً للمشاهد الذي ينشد السينما من أجل الإسترخاء والمتعة الحاضرة بها، ولهذا لم تجد أعماله صداها الجماهيري في المقام الأول ويليها النقدي، وتسبب ذلك في حالة من النفور تجاه أي عملٍ يحمل توقيع “إبراهيم عيسى” المعروف بمشاغباته المستمرة منذ التحاقه في البداية بالعمل الصحفي.
وهنا كانت المعضلة التي يواجهها فيلم “صاحب المقام” والمتمثلة في إرضاء المشاهدين بعرضٍ سينمائي عليه بصمة “إبراهيم عيسي” وتقريب المسافات البعيدة بين الجانبين تمهيداً لتحقيق الفيلم النجاح المنشود منه، لا يرغب أحداً في إختزاله للفن في صورةٍ نمطية واحدة مجردة من الحس الدرامي وتشبه الشلال الذي لا يتدقق مياهاً بل جملٍ وعبارات عن قضايا شائكة متعددة تترسخ ضمن نسيج عملٍ سينمائي له أسلوبه ومنهاجه المتعارف عليه لمن هم داخل الصناعة و خارجها.
لكن “إبراهيم عيسى” يفجر مفاجأةً مدوية بتقديمه لعملٍ سينمائيٍ متكامل يروي قصةً مطعمة بومضاتٍ من الحياة المصرية ومبتعداً بالكامل عن كل عقائده التي يتحيز لها دوماً، فهو يستحق أن يطلق عليه لقب بطل الفيلم بجانب نجمه الأول “آسر ياسين” نظير ذلك السيناريو المصاغ بعنايةٍ فائقة وحنكة سردية تستحق الثناء والتقدير وإعطاء الفرصة له بعدما استوعب الدروس والعبر من السابق، و استجاب لصوت المنطق الذي يملي عليه بالتغيير نظير النجاح والوصول بعمله أيضاَ إلي شريحة عريضة من جمهور السينما المصرية.
آسر ياسين .. بطل صنعته الصدفة
تدور أحداث الفيلم عن “يحيى” رجل الأعمال الشاب المعروف بـ غروره وغطرسته الزائدة عن حدها وحبه الشديد للعمل على حساب حياته الشخصية وعائلته الصغيرة، لكن حياته تنقلب رأساً علي عقب، حينما تتعرض زوجته “راندا” لنزيف في المخ وتدخل بعدها في غيبوبةٍ عميقة، يحاول “يحيي” جاهداً التقرب إلي الله وفعل الخير آملاً في شفاء زوجته وخروجها من تلك المأساة التي تعرضت إليها علي نحوٍ مفاجئ.
بالنظر إلي المحتوى القصصي، فيمكن القول أن الفيلم عبارة عن صورةٍ من صورٍ التغيير الفكري الذي قد يطرأ علي الإنسان صاحب الهوية المصابة بالكبر والعدمية في إدراك حقيقة الوجود وقت وقوعه بشدة أو عند إبتلائه بعلةٍ ما تجعله يصلح ما أفسده ويتدارك أخطائه التي وقع فيها دون وعيٍ أو يقظة، ولكن ذلك لا يعني أن كل من يتعرض لمصيبةٍ ما يجب أن يتغير حينها فقط ، فالعمل يرثي رسالته بطريقةٍ غير مُباشرة أيضاً تتمثل في وجوب السير علي الطريق الصحيح وقت الرخاء والشدة، وتلك هي أولي علامات إتباع “إبراهيم عيسي” لفلسفةٍ مغايرة لما يدور في مخيلته.
التفصيلة الهامة التي إتبعها السيناريو هي اعتماده على تفصيلةٍ واقعية تشير إلي طريقة المصريين في تقربهم إلى الله وعبادتهم له ، فنجد ذكر أولياء الله الصالحين واستخدامهم كرمزية الوسيلة التي يتضرع بها الناس للخالق كي يصلح أحوالهم ويشفي مرضاهم ويداوي عليهم، وحتى لا يقع “عيسى” في فخ الإنتقاد في تلك الجزئية علي وجه التحديد فهو لا يقول للناس أن عليكم إتباع ذلك في شعائركم العبادية وطقوسكم الدينية، بل هي مجرد أداة تحرك الأحداث وتقربها من أرض الواقع في توازنٍ مقبول بين الحقيقة والخيال كي تدفع بالشخصية الأساسية إلي أقسي درجات الإيمان وأن ما يقدم عليه من تصرفات ستحدث فارقاً كبيراً في حياته وفي سعيه الخاص به، وعلي نحوٍ أخر في حياة أُخرون يعانون من ويلات الفقر ينتظرون لحظةٍ تعطيهم فيها الدنيا ولو أدني الفرصة للحياة كبشرٍ عاديين.
الفيلم أيضاً يتسم بإيقاعٍ متوازن علي مستوى القصة، يعرف كيف يخوض في أجواء الميلودراما، وكيف يخفف من وتيرة الأحداث ببعضٍ من اللمحات الكوميدية الغير مبتذلة في تفاصيلها، وكيف يزيد من حدة الأحداث في وقت تواجه فيه شخصية “يحيي” مفارقاتٍ صعبة قد تعيقه عن تحقيق أهدافه، هناك مشهدين في وسط الفيلم يستحق لقب أفضل مشاهد الفيلم وأسهلها مروراً إلى قلب المشاهد نظير فيضان المشاعر الهائل التي تعبر من خلاله الشخصيات عما يخالجها من أحاسيس سعادة بابتسامة القدر لهم بعد عناءٍ في الإنتظار و إطالة في الوقوع في الخطأ.
كل ذلك يٌمنح الفيلم وراويه “إبراهيم عيسى” تقييماً إيجابياً نظير إجادتهٍ في إبعاد كافة الخطابات السياسية والدينية التي لا تقدم أية شئ مفيدً في سياق القصة كما كان الحال في تجربتيه السابقين بالسينما، وتقديم حبكةٍ مكتملة الأركان ومرضية للجميع تمنح مريدي المتعة غايتهم وأيضاً محبي الفن الهادف غايتهم، فهو بالفعل بطل الفيلم ونجمه الذي قاده بجانب “آسر ياسين” إلي بر النجاح في وقتٍ عصيبٍ من السنة سينمائياً.
الرؤية الإخراجية ل”محمد العدل” كانت مثالية بحق، فقد عمل على اختيار الديكورات المناسبة لأماكن الأحداث، وساهم بالمونتاج في دقة ظهور شخصية “روح” بالحالة التي تصورها “إبراهيم عيسى”، وفي ظبط إيقاع الأحداث والتنقل بين أجواء الدراما والكوميديا والتصاعدية في الأحداث قرب النهاية خصيصاً، لذلك هو يستحق بعد الثناء والتقدير حتي ولو كانت الأمور بسيطة بلا أية تحدياتٍ صعبة في عمليو تنفيذ الفيلم.
“آسر ياسين” يثبت نضوجه الفني عملاً بعد عمل، فما يميز أدائه هو عدم المبالغة في ارتجال المشاعر و الرزانة في إلقاء الحوار بتمكنٍ شديد على مدار الفيلم ككل نظراً لكونه علي قائمة أبطاله وكون القصة تنتسب له وتهدف لتغيير ملامح هويته الغارقة في حب الذات دون إهتمامٍ بأحد لعلها تعطي المجتمع درساً هاماً في أمور الحياة، وقد نجح “ياسين” في عكس حالة الشخصية بادئ الأمر والتعامل بجدٍ مع التحولات التي تطرأ عليها بمرور الوقت وتجسيد قدرتها علي كسب ثقة من تواجهه كجزءٍ من طريق الإيمان الذي يتغذي به “يحيي” ويساهم في تحول دفة حياته إلي الأفضل.
“يسرا” مازالت الذهب لا يصدأ أبدا، تراها في الشاشة صغيرة الملامح عن كل مرة تطل بها في الاونة الأخيرة، ساهمت في بروز شخصية “روح”، وكونها الرمزية الرئيسية لشخصية “يحيى” كي يعرف جدوي ما وصل له في رحلته، وعن ما يجب أن يفعله كي يتدارك موقفه ويصل لدرجة الإيمان المنشودة منه، ذلك يأتي إلي جانب الظهور الجيد لكلاً من “بيومي فؤاد” وضيوف الشرف “محمود عبد المغني” و”إبراهيم نصر” الذي رحل عن عالمنا تاركاً بصمةً في الفيلم لا يمكن لأحد أن ينهي الفيلم دون أن يتأثر بها ويتفاعل معها حتي ولو كان وقتها قصير ضمن الأحداث.
ختاماً، لا بد أن يعطي كل من كره فيلمي “مولانا” و”الضيف” الفرصة لفيلم صاحب المقام، فهو عمل فني راقي يخلو من أية مبالغة حوارية أو إسقاطاتٍ سياسية أو دينية بغرض إثارة جدلٍ معتاد كما هي عادة “إبراهيم عيسى”، بل هو مصدرٌ لا بأس به للمتعة وقت العيد، ورسالةٌ إلي الجميع بضرور تحري أخطائهم والعدول عنها والتقرب إلي ربهم في كل الأوقات من أجل طلب السبيل إلي السعادة في الدنيا والحياة بطريقةٍ نموذجية خالصة.