موجة الاعمال الشعبيّة المقلّة مؤخرا في الدراما المشتركة التي باتت تتلخص في ألفاظ محدّدة، شخصيات محصورة بين الشهمة والدنيئة داخل حارات كلاسيكيّة تتخلّلها أحداث ضئيلة الأبعاد، يحضر عمل أشد علوا لتهيئة موجة أشد بذوخا لتغير المعادلات ذات النتيجة الإعتياديّة بكسر القاعدة الروتينية لهذه الأعمال وأحداثها المستهلكة وهو ما ورد خلال مسلسل ” صالون زهرة “.
التركيز على مخاطبة الجمهور بمختلف شرائحه و طبقاته بشكل مباشر مبتعدين عن الألغاز والأحداث المفكّكة محور ” صالون زهرة “.
لم تعتمد دراما العمل على الصدف الغير منطقية والأحداث المتشابكة اللاواعية بل خطّت خط سير رسمته المؤلفة نادين جابر بمسطرة شديدة الدقة و الفطنة فشكلت مسار الأحداث بترتيب متّزن كل مشهد يروي جزءا من القصة بالقدر ذاته يطرح موضوعا مهمّا ويعلق عليه فحين تشاهد العمل لا تجد مشاهد فارغة و مجرّدة من الأهمية حيث اعتمدت على بنية للعمل قُسِّمت إلى فرعين في تقديم العناصر الدرامية متراصفة بروابط ظاهريّة و باطنيّة فكان للعنصر السردي مقام مهم لأن المؤلفة حرصت على رواية القصة من وجهة نظر الفرد ثم المجتمع بالتحيز المنطقي لحرية الإختيار و هو الأمر الذي جعل من العمل جامعا بين الهدف و متعة تلقّيه و ساهم في هذه المتعة اضافة الكاتبة نادين جابر للمؤثر الحسّي للمصطلحات العاميية التي أضفت الظرافة و الطرافة في حوار الشخصيات جعل الجمل أكثر اجتذابا للمُشاهِد و قربا من السمع مما ساوى كفة الميزان بين التراجيديا و الكوميديا في المسلسل فلا تشعر بثقل استيعاب المضمون فلكل شق مقاس محدد دون الإفراط بإقحامه فكل جانب مبرّره البارز.
و عن فن الإنتقاء و فن التقديم نرى نادين جابر اجتبت عيّنات من المجتمع لتجسيدها على الشاشة ثم ننتقل لنرى فن تقديم هذه الشخصيّات من قِبل أبطال العمل فكل دور يحتوي على قدر من المسؤوليّة لاحتوائه على خصل انسانية و اجتماعية و نفسية.
الصالون و ثلاثيّة الحياة ( الذات، التأثير الخارجي و القرارات ) اجتمعت جميعها حول صالون زهرة داخله مقرّ تزدحم فيه مختلف ألوان النفسيّات و خارجه سطو من نوع آخر، إلا أن الألمع هي الشخصيات الموظفة داخل الصالون و الصلات مُحكمة الرّبط بالخارج.
دينامو الأحداث “زهرة” و هي وثيقة الجمع بين كافّة الأطراف وعلاقاتها و اشتباكاتها، من المعروف أن نادين نجيم أصبحت أخصّائية في تجسيد الشخصيات ذات الطابع المظلم و ما جدّ هذه المرة هو كشفها عن حافة الكوميديا لتمسك خلالها ميزان معادلة الدور من النصف و تساوي بين الجانبين النقيضين و هو ما استطاعت هيكلته بالشكل الهندسي الصحيح الملائم للدور بضمّ الروحين معا لتعطيه شكلا جماليّا متناسبا مع حياتها، استعملت نادين خلالها لغة التفصيل في الكشف عن كيانها الإجتماعي و النفسي و الفكري، و بالفعل الشخصية كالزهرة تسقي ذاتها بقوتها للازدهار و الإستمرار و تستمد قوتها من استقلاليّتها فأصبحت صورتها ملزمة غير مهتزّة في ذهن كل من يعرفها المرأة القوية العنفوانية في اجتلاب حقها و كي لا تهتز هذه الصورة تلجأ لتصنُّع القوة في بعض المواقف لمواجهة العالم الخارجي، مساندتها للحق و رفضها لرؤية الظلم عنوانها من بعيد فهي لا تقبل تكرار ما انتُهِك منها من المجتمع سابقا مسبّبا لها أضرارا محسوسة و ملموسة و هنا حل ذكاء نادين نجيم في ربط أزمنة الشخصية و طريقة تغير نظرتها للناس و المجتمع و طريقة صحوة وعيها للحياة فحدّدت الموسيقى الداخلية لشخصية زهرة بعزفها على الإيقاع الخفي للحركة و اللغة، الشخصية الحريصة على عدم افشاء نقطة ضعفها و الشخصية يَقِظة الضمير، فنقطة الضعف لحقتها من الماضي فأصبحت مكسب قوتها في الحاضر و يَقَظة ضميرها مستمرة معها إلى المستقبل، استعملت نادين لتفسير تدرّج حياتها أداء مشروط بإدراك كل حالة في وقتها و لم يقتصر أدائها على التعبير الوجهي و الصوتي بل نزح غائرا لتعتمد على لغة الجسد بكل فصولها من توضع و إيماء.
تشعّبت علاقات زهرة من جوف الصالون إلى سطحه، فلعامل التأثير الخارجي حصة الأسد من الأحداث لذا تجزّأت إلى جزئين الأول مرتبط بالماضي و الثاني بالحاضر، ماضيها يقترن بالخذلان و فقدان الثقة رأسَها “يوسف” الشخصية التي قدمها طوني عيسى أما الحاضر فيُحدّد بالإعتزاز بناها معتصم النهار بشخصية “أنس” البند الرئيسي للبناء الدرامي للعمل.
داخل الصالون زوايا مجتمعية تشكّلت على هيئة مثلث غير متساوي الأضلاع فكل ضلع فئة مقياس طولها تختلف على أسس مبادئها و تصرفاتها، في قمّته “ابتسام” العقل الناضج و المحتوي هذه الأدوار قد نجزم و نقول أنها خُصِّصت لنهلة داوود فتحذق فيها حد الإبداع.
“رشا” و “لينا” الزوايا متساوية الفكر و المعاناة العاطفية بدرجة متباينة لكن مختلفة التصرف.
بشخصية رشا قدمت زينة مكي معنى المحايدة التخطيطية بمرونة الطرح أما لين غرة عبر شخصية “لينا” كانت شرارة الصالون.
أهميّة أثر الفنان على العمل لا يُحصر فقط بعدد المشاهد بكثرتها أو قلّتها بل على مدى قدرته على خلق مناخ جديد لأجواء العمل و هو ما تفوّقت فيه رشا بلال في “صالون زهرة” فأجادت الإستحكام بخيوط الأحداث لتكون محرّكا مهما في قلب الأحداث، بشخصية “مرام” الضبابيّة خيّمت حولها شكوك متكاثفة عن غايتها، بداهة الأسلوب قاموس رشا في تحريك الشخصية و فردت أبجدية الحركة لتدوين الصيغة الصحيحة في التعبير عن سعيها و تشكيل طريقتها للوصول فهي صلة الوصل بين عالم الصالون و العوالم الخارجية المحيطة به، احتارت و حيّرت فهي لا تعلم أين نهاية النفق و لا من حولها على إدراك ماذا تريد كحالة مفخّخة بالغموض، كفة الأخذ و العطاء على حد سواء.
كل هذه الشخصيات اندرجت تحت “دعم قضيّة المرأة” بدءاً من التقليل اللّفظي و الرّدع المعنوي إلى العنف الجسدي، جميعها طُرحت بشكل توعوي مُواجه و مُحارب لها و جُسِّدت بمسؤوليّة بالغة تكاد تنطق من فرط اتقانها، ريشة العمل كانت بيد المخرج جو بو عيد الذي استطاع بث روح عصريّة للعمل و جعل من كل شكل خارجي تعبيرا دقيقا عن التركيب الداخلي بإيجاد أشكال مشهديّة غير تقليديّة للتعبير عن الحالات، يجبرنا على الإقرار بالقيمة الجماليّة للصورة البصريّة.
بلا شك وفرة الفنانين ساهمت في قيادة دراما العمل فاحتكاك عنصرين نقيّين ابداعيّة الممثل و بصيرة المخرج ليس له إلا طريق نجاح واحد ألا و هو عمل جماهيري بمعايير فنيّة.