(إننا نستنشق الفساد مع الهواء فكيف تأمل أن يخرج من المستنقع أمل حقيقي لنا؟!“)
نجيب محفوظ
أحياناً يدل الصمت على ما هو أفظع بكثير…أنه الرد الأمثل للهدوء الذي يتلو الحريق،الحريق الذي أشعل كل شيء…الحريق الذي لمس حرياتنا ومجتمعاتنا وحاضرنا وماضينا ومساوئهما الذان يطغيان على ذكرياتنا….ذلك الحريق الذي يمكن أخماد نيرانه ولا يمكن أخماد دخانه إلا عن طريق معرفة مصدره…فالماضي لا يموت والحقيقة لا تنطفئ إلا عند أيجاد معناها…كذلك النار لا تخمد إلا عند تغطية كل شرارةٍ منها….نعيش في عالم يطغى عليه النزاع في كل شبرٍ منه.انه نزاع روحي ديني سياسي أو أجتماعي أنه النزاع الذي عندما يتمكن منك قد يسخطك إلى اسوء الوحوش،انه ذلك النزاع الذي تتعايش حسب رغباته وتطل بروحك على ما يرضي شهيته…وهنا تأتي إلى العنف الذي يلحق النزاع كالخليلان الذان لا يفترقان…لقد قام العنف بحبك أغلب ذكرياتنا التي لا تنسى…العنف مثل الندبه التي توسم داخل العقل ولا تظهر على البدن،انها الندبه التي لا يراها أحد سواك ولكنك تعلم وبكل وضوح انها أقوى وأشرس وأرهب مما يمكن أن يستوعبه أقرب الناس لك.
يجسد الفيلم رحلة أم تبعث بتوأميها جان و سيمون إلى رحلة في الشرق الأوسط حيث الحروب اللانهائية للبحث عن جذورهم المختلطة.والكشف عن خفايا وأسرار ومحن مرة بها نوال مروان في عمق الحروب والنزاعات لتصل إلى مكمن المراد والحقيقة لنفهم السبب والإجابة والصواب من الخطأ والماضي من الحاضر.. الفيلم الذي قدم في طابع من الشاعرية الحزينه والدراما المؤثرة.وأخذ الجانب السوداوي لوصف طباع الفيلم ومشتقات شخصياته.
نوال مروان-جان مروان-سيمون مروان-ابو طارق-لبنان- فلسطين-الارهاب-السلام.(واحد + واحد =واحداً مفردا.) كل تلك الأفكار وكل تلك المشاعر الغير مفهومه والغير مبرره خلقت نوع من الظلمه في طباع الشخصيات كل ذلك التناقض خلق نوع من الإجهاد في نفوسهم ولكنهم لا يملكون إلا التعايش مع الواقع وفرضه على أحلامهم ف جان كبداية فتاة أنها الحنونه التي تأثرت بالحقيقه وتعاطفت مع الواقع بجميع أشكاله لتعرض لنا اطيب ما فينا أما سيمون فهو نموذج للرجل المحب الذي يحاول التماسك وفرض غضبه على مشاعره ليعرض لنا التردد والخوف والغضب في نفوسنا أما نوال فهي الصواب و الخطأ معا هي الأساس الي قامت عليه القضية ويجب على جان وسيمون الالتحام لحلها..أما أبو طارق فهو المشكلة واللغز الذان يقفان عليه دونا أن يروه.
نحن نتحدث اليوم عن تحفة (ڤيلانوي):حرائق.انها الملحمه التي قامت بنحت اسمها في عقولنا برسائلها وافكارها وتركها لنا.نحن نتكلم عن قصة حياة واحده بنواتجها وتغيراتها…انها رحلةٌ بين الماضي والحاضر لنعرف القليل عن هوية المستقبل..وهنا يستعرض ڤيلانوي قوة السيناريو الخاص به المتنقل بين الماضي والحاضر ليأخذنا في رحلة غوصٍ داخل أعمق اعماق الشخصيات إلى هوامش المجتمع وهفواته التي تقودنا للهلاك.لقد عرض دينيس إدراك سهل لقصة مشتتةٍ خيطت تفاصيلها بشكل مثالي عند النهاية ليجعلنا نخوض التجربة بعشوائية عالمها المرعب وبتفاصيل دمويتها ليجعلنا نفهم الحقيقة الكامله لما تميل عليه الشخصيات من مبادئ.انتقال دينيس بين القصص كان ذو معنى راقي فعندما تطرح الحقيقة يأتي لك دينيس بسؤال آخر لتبدأ الرحلة في البحث عن أجابته..ذلك العرض قدم بأتزان شديد وبحرفية استثنائية تجعلنا ندرك المعنى وراء أفعال كل شخصية وخلفية تفكيرها.
ثم عن خلفيته الاخراجية في تقديم العمل لم تكن كبيره كانت جيده ولكن ما حدث في Incendies كان أشبه بالنقله النوعية له التي أخذته لمستوى أخر نحن نتحدث عن عمل فني منظم ومخطط بشكل رائع كتابيا ولكن الاروع هندسة دينيس الاخراجية فأستعماله لبعض الكادرات الصادمه واللقطات البعيدة (Long shots) لأيصال المعاني فكان بشكل مثالي لقد استطاع دينيس أن يكون بطل العديد من المشاهد في الفيلم وما لفت انتباهي أيضاً هو توظيفه الرائع لشخصياته في أيصال المشاعر بكادرات محورية مؤلمه تلمس المشاهد بشكل صعب ليضع بصمته وبكل جدارة داخل جميع أطارات الفيلم والمثال الأبرز على ذلك هو ال(Close shots) اللي وضحت حقيقة الشخصيات و اللتي خلقت تركيبه شاعرية بأستخدام تفاصيل بيئته لعمل فيلم واقعي فكرياً ومؤلم ومؤثر عاطفياً.لقد عرض دينيس زوايا تصوير تقوي من متانة العمل فكريا وتزيده من حسنه جماليا وترفع من لمساته الفنيه.بألوان مناسبة للجفاف الذي يسود حال واقعنا استطاع دينيس تشكيله والتلاعب به وعرض ما في جعبته من أمتيازات.فقد أوضح لنا بجوهر لقطاته قالب المشاعر من الداخل بدون أي حوارات فقط لقطه ثابته تشرح ما حدث وما يحدث وما قد يحدث وهنا تكمن عبقرية إبرازه للحظاته المحورية.
وأخيراً لا يمكنني أن اختم دون الحديث عن هدية الفيلم التي لا تنسى (المرأة التي تغني) انها المرأه التي تستمر في الغناء لتداري على أصوات التعذيب من حولها..انها المرأة التي عرفت الحقيقة وكسرت بسببها ولكنها وقفت صامده مجدداً..انها المرأة التي كانت ضحية هذا العالم لتنتقل من مشاعر الحب البسيطه إلى غل الانتقام القاسي وعلاج الماضي الذي لا يمحى تلك الشخصية كانت مرسومه بشكل يستحق التصفيق ولكن من ساعد حقاً في أخراج تلك الخيوط هي (لوبنا إزابيل) التي استطاعت الانتقال من التركيب البسيط إلى اصعب الأبعاد الدراميه والتي احتاجت جهد كبير لتقديم تفاصيله…نحن كنا أمام كاريزما مثالية قدمت بكل اتقان،استطاعت إزابيل تقديم مشاعر مختلطة وصعبة خطفت بها الاضوائي لتلقي بستارها على جميع شخصيات الفيلم ورفع مكانتهم ومستواهم الكتابي أو حتى التقديمي وقد كانت جزئا لا يتجزأ من محور الفيلم.
وفي النهاية فيلم Incendies واحد من المعارك التي لا تنسى بتفاصيل قوية وبرسائل أقوى استطاعت اخذك إلى تجربة دسمه مليئه بالعواطف والأفكار والمشاعر التي يصعب تفسيرها ولكن تسيطر على غرائزنا…انها ذلك النوع من الافلام الذي يبقى عالقاً داخل العقل ولا ينسى ابدا.والذي نجح وبكل جدارة في أزاحة الستار عن خيبة مجتمعنا المثير للشفقه الذي يثبت يوماً بعد يوم أن ((الأخطاء لا تنسى والماضي لا يمحى والحقيقة لا تبلى)).
فيرديريك نيشته:(“احذر وأنت تحارب الوحوش أن تُصبح وحشًا مثلهم“.)
بقلم : اسلام عطا الله